تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


استثمار الخيبات متى ننتقل من حالة المفعول به إلى حالة الفاعل؟

شباب
7/16 / 2012
جواد ديوب

يقول الكاتب الأرجنتيني الأعمى بورخس:

«كل شيء يحدث، بما في ذلك الإهانات، الإرباكات، لحظات النحس، كلها توهب كقطعةِ طين، كمادةٍ لفنّ المرء، يجب عليه أن يقبلها،‏‏

لهذا السبب أتحدث في قصيدة لي عن الطعام العتيق للأبطال: الاهانة، الشقاء، التنافر. هذه الأشياء وهبت لنا من أجل أن نحولها، بحيث نستطيع أن نجعل من الظروف التعيسة لحيواتنا أشياء تكون أزلية.»‏‏

هكذا إذاً يكون فعل الأبطال في حياتهم، فعلٌ غير تدميري، أو انتقامي، لأنهم أبطالٌ، فنانون، شعراء، طامحون لإعادة تشكيل الحياة الصعبة والمريرة التي يعيشونها وتحويلها إلى معادن نفيسة لا تصهرها براكين الزمن ولا تفنى بفنائهم.‏‏

البطولة والفعل الثوريّ برأيي هو أن نتمكن، نحن السوريين، من تحويل خيباتنا إلى خميرةٍ تنضج تجربتنا الحياتية لنصنع بعد ذلك خبزنا المعرفي الذي نحيا به حتى بعد زوالنا.‏‏

من متابعتي لكثير من البرامج التلفزيونية الغربية عموماً، والأميركية خصوصاً، مع ملاحظة ضرورية جداً هي أنني أقف ضد السياسة الأميركية القائمة على «الغزو مستمر من 501 عام» بحسب عنوان كتاب الأكاديمي الأميركي نعوم تشومسكي المنتقد الدائم لأميركا، وبحسب كل وقائع تاريخ أميركا العنفيّ والاستعماري منذ نشوئها القائم على إبادة عرق بشري آخر، إذاً من مشاهدتي لتلك البرامج وتحديداً تلك المتعلقة بمشكلات الشباب ومواهبهم، تكونت لدي مجموعة من الملاحظات حول طريقة تفكير القائمين عليها، والذين هم جزء من مجتمع أميركي يشكّل هويتهم، حتى لو حمل العرض التلفزيوني نوعاً من خصوصية عرض جماهيري مبالغٌ فيه، وموجّه لتحقيق أهداف محددة من خلال التأثير على «الشعور الجمعي» للمشاهدين المُحتمَلين.‏‏

وقد سجلت عدة نقاط تقوم عليها تلك العقلية، ليس تمجيداً للمجتمع الأميركي ولا مديحاً لثقافتهم، رغم اعترافي بجوانب عظيمة منها، إنما من مبدأ «اعرف عدوّك»، ومن ثم لتكون شاهداً واقعياً على ما يمكن لنا أن نستفيد منه، و«نوطّنه» في مجتمعنا، بل وما يمكن أن نتجنّبه ونحسّنه من سلبياتنا ونواقصنا نحن الشباب السوري، مع مراعاة كل فوارق وخصائص البيئة السورية اجتماعياً وثقافياً، وهذه الملاحظات هي:‏‏

أولاً: في تلك البرامج يبدو معظم الشباب الخلاقين المبدعين من أصول غير أمريكية، أو بالأحرى من غير البيض، فهم أفارقة وصينيون وأمريكيون لاتينيون ويابانيون وهنود وغيرهم. إنه نزوع وطموح الأقليات إلى تجاوز ما سأسميه «العقم السياسي» الذي تم خنقهم فيه من قبل الساسة البيض، طموحهم لأن يكونوا متميزين موهوبين وجريئين على نحو مميز فيما يتعلق بدمج عناصر عدة ثقافات وعدة هويّات في قالبٍ واحد، وبحريّةِ تجديدٍ واختلافٍ لا يجرؤ عليها من يدّعون أنهم «أبناءُ البلد». لذلك ومن إدراكٍ «خبيثٍ» لهذه المكوّنات الغنيّة عمِلتْ الولايات المتحدة الأمريكية، هذا البلد الهجين والذي أسميه خزّان الطاقات المذهل، على اقتناص تلك المواهب ببراغماتية شرسة، وبذكاء تجاري يثير الغضب من قدرتها على «شفط» الإنسان عن آخر رمق ٍ فيه.‏‏

ثانياً: دعم وجمع تبرعات لأفكار خلاّقة مهما يكن الشكل أو اللون والعرق أو حتى تفاصيل اللباس والأزياء ولون الشعر وتسريحته، فكلها تفاصيل تخدم العمل ولا تقيّده، ولا تجعل الشباب يشعرون بأنهم مذنبون ومراقبون فقط لأن أزياءهم و«موضتهم» قديمة أو غريبة. وذلك لا يعني بالضرورة أن المجتمع الأمريكي غيرُ متعصّبٍ للعِرق «الأبيض»، إنما أقصد أن القائمين على مفاصل العمل الاقتصادي هم مستثمرون وتجار يعرفون بخبرة الأخطبوط كيف يقنصون كل ما هو منتج للمال، وكل ما يمكن أن يلمحوا فيه مجالاً لصفقات تجارية ومشاريع نفعية مع التأكيد على فكرتي السابقة أي قيام هذه الشركات باقتناص تلك الرغبة الجارفة عند الأقليات للتعويض عن فقدان كرامتها السياسية بأن تتجه- ربما لحسن حظنا في هذا التاريخ البشري- نحو الإبداع عالي المستوى في أنواع الفنون كافة، وتحديداً في الموسيقا والرسم والرقص، وبدرجة أقل في الأدب الذي تتم محاصرته والتضييق عليه باعتباره لابد وأن يتطرق للسياسة بشكل أو بآخر.‏‏

ثالثاً: التشجيع الدائم والمستمر للشباب والأطفال لكي «يصنعوا شيئاً ما» في حياتهم، مهما صغر شأن هذا الأمر الذي يرغبون بفعله، فهم لا يستهزئون بأي هاوٍ، ولا يهينون أفعاله مهما بدت سخيفة، ولا يبخسونه حقّه.‏‏

رابعاً: التجديد ليس فقط في التصاميم وفي الألوان بل في الأفكار أيضاً، أي في مواضيع إنسانية مهمة لكنها مهملة أو مغيبة أو غير منتبه لها مثل: مبتوري الأطراف، المصابين بالسرطان ، والإيدز، الأطفال المتسربين من المدارس أو مثيري الشغب والعنيفين...) وهذا الالتفات لا يقتصر على «موضة» إعلامية، أو ادّعاء مجّاني بأنهم يهتمّون بذوي الحاجات الخاصة، بل يتعدّاه إلى متابعتهم ومراكمة برامج عنهم عبر سلسلة إعلامية في قنوات عدّة، وأماكن عديدة، كالذهاب معهم إلى داخل بيوتهم، وإلى الجامعات وأماكن عملهم، بما يعطيهم الأمل بحياة أفضل، ويعطي المجتمع حولهم أملاً مضافاً بأن الحياة تستأهل العيش.‏‏

خامساً: عدم الخجل من طرح مواضيع خطرة ومهمة اجتماعياً بالنسبة للشباب، بل عدم المجاملة في التطرق لها لأنها قد لا تعجب بعض التجمعات أو الجمعيات الفاعلة وبعض صنّاع القرار في المجتمع، كما يتضح أنهم يحوّلونها إلى مواضيع الساعة ومواضيع «ملهمة /inspiring»، وهذا شيء غير قليل الأهمية على الإطلاق، أقصد هذا الإلهام وذاك الاهتمام الحثيث والقدرة على احتضان المتميزين وحتى كما قلت امتصاص طاقاتهم ولو من منطلق المنفعة المادية والتي بدورها تحقق منفعة اجتماعية ونفسية لصاحب الإبداع. هذه العقلية أي عقلية النفعيّة البراغمائية العملانية هي ما يجعل أفراداً صغاراً لا تتجاوز أعمارهم 13-14 سنة ينجزون ما يحلم كبارنا بإنجازه لأنهم في معظم الأحيان يفتقدون الدعم والتشجيع الكافيين. في هذه النقطة أستعير قولاً منسوباً للعالم المصري أحمد زويل: «في الغرب يدعمون الفاشل حتى ينجح، أما عندنا فيحاربون الناجح حتى يفشل.»‏‏

يبدو أن بعضنا، نحن العرب، قد تحول من منتج للثقافة وفاعلٍ في الطيف الثقافي العربي، إلى أناسٍ يملأ الزهو الفارغ رؤوسنا، نتفاخر بمنجزات أجدادنا الماضية، بينما الآن في الحاضر نشتم ونهزئ سرّاً وجهراً، بل ونكفّر ثقافات ومجتمعاتٍ وشعوب صنعت وطوّرت أوطانها بحس عالٍ من الأخلاقية الوطنية، كالصين مثلاً، فقط لأنها من حيث العقيدة الدينية ليست ديانات توحيدية، رغم أنها تصل في تعداد سكانها إلى ما يقارب نصف سكان هذا الكوكب الذي نتقاسمه معهم. وأجد هنا قول أدونيس الفلسفي والشعري دقيقاً لدرجة التطابق الواقعي: «أنت لا تكرهني، أنت تكره الصـورة التي كوّنتهــا عنّي، وهـذه الصورة ليسـت (أنا)، إنها (أنت).»‏‏

وهناك نقطة مهمة هي أننا نتّهم الحضارة الغربية بلا أخلاقيتها ولا إنسانيتها وفكرها الرأسمالي، فيما نحن لا نفعل شيئاً لنكون أفضل وأجمل وأرقى، على الأقل إلى المستوى الذي يسمح لنا بانتقادها، بل يبدو أننا ننتقد ما نحسده لديهم وما نغار منه، كمن لا يطال العنب فينعته بالحصرم.‏‏

يحضرني هنا مقطع صغير عن مسألة الاقتباس من الغرب ومعارفه، من حوار نادر أجراه عام 1982 المسرحي السوري سعد الله ونّوس مع الكاتب الفرنسي جان جينيه المعروف بعدائه للغرب ودفاعه عن حركات التحرر العالمية، وأهمها القضية الفلسطينية:‏‏

- جينيه: «إن الاقتباس هنا غالباً ما يؤدي وفي غفلةٍ منّا، إلى الافتتان بالآخر، وبالتالي إلى محاولة تقليده، وفي أسوأ الحالات إلى التماهي معه.‏‏

- سعد الله: ألا توجد فرصة للتعلّم من الغرب دون الوقوع في فخّ الافتتان به؟‏‏

- جنيه: ليس وأنتم تعتقدون أن الغرب هو الأقوى والأنضج ثقافة.‏‏

- سعد الله: ماذا تقترح إذن؟‏‏

- جينيه: أن ترفضوا هذا الغرب، وأن تبدعوا أنفسكم بأنفسكم.»‏‏

إذاً مع كل ما يمكن أن يقال عن «سقوط الحضارة» الغربية بحسب بعض مفكريها أنفسهم، أو ما يقال عن عظمتها وارتقائها المستمر، فإن الاقتباس من «الغرب» ليس معيبا بالنسبة لنا، لكن علينا معرفة ماذا نريد، وكيف يجب اقتباسه، بما يتلاءم مع البيئة السورية، وبالاهتمام أكثر بمجتمع وشباب الأقليات السورية (الكردية، الأرمنية، الآشورية وغيرها) والتي تكتنز، بحسب معرفتي، غنىً ثقافياً موسيقياً وفنّياً مميزاً، بما يجعل البذور الأصيلة التي يمتلكها الشباب السوري تتبرعم وتزهر وتنتج ثماراً تحمل في جوفها مستقبلاً يستأهل منّا الانتظار والصبر والرغبة في Javados2004@yahoo.com‏">الحياة.‏‏

Javados2004@yahoo.com‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية