فمن يتصور الأدب العربي بلا المتنبي أو أبي فراس الحمداني أو من يجد سراً للأدب الهندي دون طاغور أو الأدب الانكليزي دون شكسبير أو الفرنسي دون فيكتور هيغو والروسي دون غوركي والأميركي دون همنغواي، ولكن هل يتنافس مبدعو البلد الواحد فيما بينهم وإلى أي حد يصل هذا التنافس، حد الغيرة أم عداوة الكار هل يولد أدباً جديداً أم يقدم وقائع وطرائف تروى للأجيال؟
هل نتذكر أبا الطيب المتنبي وهو يخاطب سيف الدولة بعد أن قذفه بدواة كانت بيده حين أوغر صدره أحد المبدعين المنافسين للمتنبي فتولد على الفور رد رائع إذ قال المتنبي:
إن كان سركم ماقال حاسدنا/ فليس لجرح إن أرضاكم ألم.
وثمة حكايا كثيرة في تراثنا الأدبي ضمن هذا الإطار وماقصة المعري في بغداد ودفاعه عن المتنبي في مجلس أدبي حيث أغاظ صاحب المجلس ليست إلا دليلاً على ثراء أدبنا بهذه الوقائع.
مبـــــــارزة
وفي الآداب العالمية تبدو الظاهرة ذاتها وقد لمسنا آثارها موجودة في الأدب الأوروبي ولاسيما الفرنسي، أما أشهر حوادث الغيرة التي وصلت إلى حد المبارزة فقد وقعت بين أديبين روسيين هما تورغنيف وتولستوي تقول الحكاية:
لم يكن تورغنيف يحب تولستوي لاختلاف الأسلوب الأدبي بينهما، وقد كتب إليه سنة 1855م يقول: لقد أقنعت نفسي بأن ما أشترك معك فيه قليل جداً إذا استثنينا المصالح الأدبية، إنك توجه حياتك كلها نحو المستقبل أما أنا فإني أبني على الماضي، فليس في مستطاعي أن أتبعك ولاهذا أيضاً في مستطاعك، وإني أؤكد لك أني ماحدثت نفسي قط بأنك خبيث ولاظننت فيك الحسد، ولكني أجد فيك شيئاً كثيراً لا أفهمه وإن لم يكن في هذا الشيء، شر، وأنت من دقة البصيرة بحيث تعرف أنه إذا كان ثمة مايحسد أحدنا الآخر عليه فلست أنا بهذا الحاسد.
تبدو لهجة تورغنيف الحادة التي تنبىء بما سيقع بين الكاتبين المشهورين وقد حدث أن دعاهما صديق لهما إلى مائدة طعام سنة 1861م، ويروي الرجل ماحدث فيقول:
كانت زوجتي تعرف اهتمام تورغنيف بتربية ابنه فسألته: هل هو راضٍ بالمربية الانكليزية التي أحضرها لها؟
فأخذ تورغنيف يطري على هذه المربية وقال إنها طلبت منه أن تعرف مقدار ماسيخصصه لابنته من النقود لكي تنفقه على الأعمال الخيرية وأنها جعلت ابنته تجمع الملابس العتيقة من الفقراء لكي ترممها وتصلحها.
وهنا تدخل تولستوي وسأل: وهل أنت توافق على ذلك؟ فقال تورغنيف: أجل لأنها بذلك تعرف الفقر على حقيقته، لكن تولستوي أجاب إن رأيي أن الفتاة النظيفة الراقية إذا تناولت الملابس القذرة فإنها إنما ترائي بذلك وعملها يكون دعائياً.
فأجابه تورغنيف وأنفه يرتجف من شدة الغيظ: أرجوك ألا تقول مثل هذا الكلام.
فأجاب تولستوي: ولكن لماذا لاأكون حراً في إبداء رأيي؟ وقبل أن يهدأ تورغنيف نهض وتبعه تولستوي وطلب مسدساً وتحدى تورغنيف أن يبارزه، لكن الأخير رفض المبارزة وانصرف، وبعد فترة استمرت ستة عشر عاماً كتب تورغنيف معتذراً من تولستوي فأجابه تولستوي قائلاً: إذا أنت تكرمت واغتفرت لي خطيئتي في تحديك فإني أتقدم إليك بكل ما في مقدوري من صداقة ونحن الآن في السن التي ينبغي فيها الحب لجميع الناس.
وعاد تورغنيف إلى القول: إني في قمة السرور لتجديد يد صداقتنا وإني أصافح اليد التي قدمتها بكل حرارة.
وبعد ثلاثة أشهر زار تورغنيف تولستوي ونزل عنده ضيفاً كريماً وتوثقت بينهما صداقة جديدة.