|
عــــــداوات علنيــــــة.. وصداقـــــــات ســــريــــــة ثقافة فقد كانا يتظاهران بها أمام الناس، وفي أسواق الشعر التي تقام مرة في العام، وفي المجالس العامة والخاصة، ولاسيما مجالس الخلفاء والولاة. وهما لايتورعان مع سبق الإصرار والتعمد ودون مواربة عن شتم بعضهما دون حياء بأقذع العبارات السافلة التي تمس سمعة وكرامة: الأم، والزوجة، والأخت، وشرف القبيلة برمتها، وهي كلمات بالغة الفحش تخدش الذوق العام، و يعاقب عليها قانون العقوبات السوري في أيامنا هذه.. شأنهما في ذلك.. شأن الفرق الزجلية المحترفة، في عصرنا الحديث، حيث يتراشق الزجالون فيما بينهم الاتهامات الفظيعة، في أجواء من المرح والبهجة التي يبديها الجمهور السعيد، ويعبر عنها بالتصفيق والضحك وطلب الإعادة، وفي نهاية الحفلة الزجلية، وهي غير منقولة عبر شاشة التلفزيون لجرأة العبارات وسخونتها، يخرج الزجّالون إلى الشارع دون أن يعاتبوا بعضهم، فالأمر بالنسبة إليهم لايتعدى سوى جذب انتباه الجمهور وإسعاده، لقاء مادفعه من مال. وتجدر الإشارة هنا.. إلى أن الشاعر جرير، كان لايتأخر عن نجدة صديقه الفرزدق في الأوقات الحرجة أو عندما يهدد بأذية، كأن يتواسط له بالشفاعة عند الخليفة أو الوالي ليغفر له، ماصنعه من حماقات أو تصرفات طائشة، وفي الوقت نفسه كان الفرزدق يعامل جريراً بالمثل، ويحرص على حماية صديقه، لكيلا تنفرط هذه العلاقة الثنائية العجيبة. ودليلنا على عمق هذه الصداقة السرية بينهما، ماورد في كتاب (الأغاني) لأبي الفرج الأصفهاني (ج8ص93 طبعة المكتبة العلمية): «بكى جرير حين نعي الفرزدق أمامه، وقال: أما والله إني لا أعلم أني قليل البقاء بعده، ولقد كان نجمنا واحداً، وكل واحد منّا مشغول بصاحبه، وقلما مات ضد أو صديق إلا تبعه صاحبه، فكان كذلك مات بعد سنة». وبإيجاز شديد.. فقد كانت هذه العداوة المزيفة بينهما، من «لوازم الشغل» وهي تهدف فيما تهدف إلى جمع أكبر عدد من أبناء الصحراء لسماع أشعارهم الهجائية، في أجواء يمكن أن نعتبرها إرهاصات غامضة وبدايات ساذجة لولادة المسرح الشعري، كما يحدث في أيامنا هذه عندما يجتمع الناس في مسرح يزدحم بالمقاعد الوثيرة لمشاهدة إحدى المسرحيات. أما في عصرنا الحديث.. فقد استرعى انتباهي، خلال العقدين الأخيرين من القرن العشرين، ظاهرة العداوة المستحكمة بين الشاعرين الكبيرين نزار قباني وعبد الوهاب البياتي، وهما اليوم في ذمة الله ويرقدان دون صخب أو مشاكسة، في ضريحهما بدمشق، وقد ظهرت هذه العداوة التي اتسمت بالمهاترات و«الردح» الأدبي، على صفحات الصحف والمجلات والدوريات العربية، فكانت حديث الناس وقتها، وفيما يلي بعض هذه التصريحات النارية وهي من العيار الثقيل المحظور في عالمي الأدب والنقد. يقول نزار: «البياتي هو حكواتي الشعر العربي والواشي الكبير، والمرأة المطلقة، وابن آوى الذي يهاجم أعشاش الشعراء ويسرق بيضهم ويخنق فراخهم، توقف عن كتابة الشعر وتفرغ ليشوي زملاءه الشعراء على نار نفسه المريضة، لوكنتُ مسؤولاً لحاكمته بتهمة رمي الزبالة في الحدائق العامة». وتحدث هذه الآراء، الذوقية، ضجة مدوية في الأوساط الثقافية العربية، وينتظر الجمهور، ردة فعل البياتي التي جاءت عبر صفحات مجلة الهلال المصرية (شباط 1977) في سياق مقابلة صحفية أجراها معه الروائي المرموق خيري شلبي: «هناك بعض الشعراء قد يبيعون دواوينهم جيداً: نزار قباني مثلاً.. ولكن شعره ينظر إليه لاعلى أنه شعر فقط ولكن على أساس أنه حاجة ثانية.. أو لسبب آخر غير الشعر، من خلال ترددي على المكتبات ألاحظ أن من يشترون كتب نزار لايمتون إلى الثقافة بصلة وبالكاد يعرفون القراءة، ولكنهم يشترون هذه الكتب و في تقديرهم أن بها أشياء ممتعة، أنا لستُ ضد التعبير عن الجنس أو العري ولكن يجب أن يكون هناك رؤية وموضوع وقصد وراء هذا التعبير». ولكيلا تتورط مجلة (الهلال) العريقة بالإساءة إلى مكانة نزار الأدبية، أو أنها تتبنى مثل هذه الأقوال فإنها تنشر في نهاية المقابلة تعليقاً يقول إنها لاتوافق على رأي البياتي المعروف عنه تحرشه بالشعراء الكبار، من أجل تنشيط الواقع الثقافي العربي الراكد الذي يعاني من البرود والجمود الواضحين.. ما دفع البياتي كعهده إلى الهجوم ذات اليمين وذات اليسار. ويصمت الشاعر الكبير نزار قباني على مضض، وينتظر الفرصة السانحة لتأديب البياتي وردعه، وتأتي الفرصة على طبق من ذهب، عندما يقابل الرئيس العراقي في القصر الرئاسي، فيقدم شكوى سريعة بحق البياتي، فيصمت الرئيس صاحب الوجه المتجهم الذي لايروق له التدخل في خلافات الشعراء أو الموازنة بينهم، بالرغم من إعجابه وتقديره لنزار.. وحين يسمع البياتي الذي كان في بغداد يومها بقصة الشكوى المرفوعة ضده فإنه يتظاهر بالحزن للوهلة الأولى، ويعترف أنه قد غلب على أمره هذه المرة، لكنه سرعان مايشهر سلاحه اللفظي في وجه نزار قائلاً: «حسبي الله ونعم الوكيل» أنا ماذا فعلت أم هو ماذا فعل بي ألا يكفي أنه طبع لي ديواناً في دار النشر التي يمتلكها من دون أن يعطيني فلساً من أتعابي» (مجلة الوسط 15 آب 1999). وبالرغم من هذه التصريحات الاستفزازية بينهما فقد كانا يسلمان على بعضهما بحرارة ويتعانقان عندما يلتقيان مصادفة في لندن أو باريس، أو في إحدى الدول العربية، وبراءة الأطفال الكبار تطل من العيون الحالمة بإمارة الشعر العربي.
|