رغم ما يعتقد البعض من تضاد أو عدم انسجام بينهما، وهما محمود عجان، وجبرائيل سعادة. وهما اللذان قدما الكثير لأهل اللاذقية من الموسيقا والغناء، والتعريف بموسيقا اللاذقية، وتعليم الموسيقا، وربما تأهيل الأجيال التالية لهما لتعلم الموسيقا وتذوقها..من هنا سنعرفكم على محمود عجان وجبرائيل سعادة موسيقيا ً، كما سنعرفكم على الموسيقا والغناء وأهم أنديتها في اللاذقية، لكن في مادتين منفصلتين.
جبرائيل سعادة
يقول جبرائيل سعادة عن نفسه: «أنا أصنف نفسي كمواطن ٍ يحب بلاده،ويدافع عن مصلحتها بأي شكل ٍ، وأنا لاأهتم بالخطابات والكلمات، ما يهمني من أي شخص،ومن أي حزب أو مؤسسة، هو الفاتورة التي يقدمها للتاريخ، لأنني أنا شخصيا ً مؤرخ ».
كان جبرائيل سعادة (كابي)، يحاول التفوق على نفسه،، و بنى بدلا من الكنيسة مدرسة، (لا تزال قائمة ً حتى اليوم) الثانوية الوطنية الأرثوذكسية، بدأ بتعلم الموسيقا، واهتم بالأدب قراءة ً وكتابة ً، وهذا ما قاده مصادفة ً إلى أوغاريت حين كان يبحث في إحدى دور بيع الكتب في باريس عن كتاب ٍ ما عندما وقع نظره على صفحات ٍ تحكي عن موقع أثري شمال اللاذقية، وكانت البداية مع أوغاريت كتابة ً واهتماما ً.
ورغم (نهفاته) مع الآخرين كان الآخرون يكنون الاحترام الكبير له، رغم مخالفتهم الرأي له، وبعضهم لم يحمل نفسه عناء الرد على نهفاته أو انتقاداته الكبيرة لهم، ومنهم الموسيقار محمد عبد الوهاب،ورغم أكثر من مقال ومحاضرة،وكتابة في الصحف (ضد عبد الوهاب) فإن رأي (كابي) لم يكن إلا شخصيا، فقد أحب طرب عبد الوهاب وموسيقاه، ولا تستغربوا من هذا الموسوعي في آخر أيامه،أنه كان معجبا ً بشكل ٍ كبير بالمطرب رامي عياش وأغنيته (بغنيلا وبدقلا وغير بحبك ما بقلا).
قبل وفاته بأيام،وكان فاقدا ً للنطق، استمع إلى حفل ٍ فني للفرقة التي كان مسؤولا ً عنها،وتضايق مرتين معلنا ً ذلك بيديه، أمام حبيب بيطار مدير الفرقة. ليؤكد أن حسه مازال سليما ً. وقبل أيام حاول عبد القادر هلال نثر الأمل في نفسه،احتضنه مودعا ً (وكانت الأخيرة): خلي إيمانك بالله كبير يا أستاذ.
استجمع الأستاذ كل ما بقي لديه، وقالها متقطعة ً للماركسي المعروف: قول لحالك.
هذا هو الجميل (كابي) الذي كان مصرا ً أن يستكمل دراسة أغاني و موسيقا اللاذقية، فالقسم الذي أنجزه ليس كافيا ً، وهو وحيد الجانب، ومن دون «دراسة آل العجان حول الجزء الآخر من المدينة فإن دراستي لن تكتمل». ولم تكتمل، كما لم يصدر، ويبدو لن يصدر آخر جهدٍ فكري ٍ تاريخي ٍ له حول « أوغاريت ومملكتها » الذي تركه بأكثر من ألف وثلاثمائة صفحة، بين يدي ابنة أخته د: (ليلى بدر).
ولن ينفعه ندمه على ترك مكتبته لجامعة تشرين، كما صرح (لفاطمة داود) قبل وفاته، ولن يسمع تهجمات منذر المصري ومغالطاته حول حياته.
اللاذقية، تلك القرية الكبيرة أحبها كابي وأحبته، غادرها باكرا ً تاركا ً إرثا ً جميلا ً من التاريخ والآثار،من الشعر والقصة، ومن الألحان الجميلة التي لم يقدر لها أن تنتشر رغم ما ساهم به كابي من انتشار ٍ لأغاني اللاذقية وغيرها. ورغم ما قدم من مساهمات ٍ لم تكن صورة ً حقيقية ً عن المستوى الفكري الكبير لكابي.
ترك العديد من الألحان، والكثير من المساهمات النقدية الفنية، ودراسات ٍ هي السائدة حتى اليوم عن أغاني اللاذقية.
كتبت في رثائه
قال عنه حنا مينة: في اللاذقية بحران بحر الماء وبحر الآثار،
ونقول له:ستبقى بحرا ً للآثار مجاورا ً للمتوسط،يسمع نداءه الخفي، تلتقي وشوشات روحه مع وشوشات موجه.
محمود عجان
« أنا إنسان بسيط،أقضي وقتي في البحث عن حبة البندورة و البا ذنجان وفي قرن الفليفلة، في الوقت الذي يجب أن أتفرغ فيه لمؤلفاتي الموسيقية».
مات طفلاً،في التسعينات من عمره، وربما أصابته عدوى جبرائيل سعادة، فهو الآخر ورغم موسوعيته الكبيرة لم يترك الكثير من المؤلفات، على عكس الكثيرين الذين غادروا اللاذقية عن ثلاثين أو أربعين مؤلفا ً، أو لا يزالون يرزقون ولديهم من عشرين إلى خمسين مؤلفا ً.
مات طفلا ً ولا يزال يدندن بكمانه مرحبا ً بضيوفه بأسمائهم، وكان هؤلاء يسعدون كثيرا ً لسماع أسمائهم صادرة ً عن كمان (الأستاذ).
أستاذ،ولا كلمة أخرى تستطيع التعبير عن محمود عجان، ومجتمعه الصغير الذي كان يلتئم كل جمعة في بيته، ويجتمع الفنانون والأدباء،محبون وكارهون، لكنه كان المحب المبتسم دائما ً والقلب الكبير الذي يجمع أهل اللاذقية المثقفين.
حافظ على بيته، الأساس لم يتغير،صورته محتضنا ً الكمان، العود في مكانه،الكمان إن لم يكن بين يديه، ففي مكانه، الشلة على الشرفة المستديرة، ربما كان بيته الوحيد في اللاذقية الذي حافظ على شرفة ٍ مستديرة، تجمع الأحباب حولها، ونقاشات ٌ تبدأ في الواقع المعاش، تمر بالسياسة قليلا ً،وكثيرا ً من الموسيقا والأدب وأخبار اللاذقية، وربما زوارها.
يعتبر الأستاذ رائد الموسيقا الأول في اللاذقية، فهو أول من قرأ ودون النوتة الموسيقية،وأول من ألف في الموسيقا. يقول عن ذلك: «جعلت من نفسي سبيلا ً في اللاذقية،علمت الألوف مجانا ً، بدأ العلم الموسيقي من عندي، علمت اللاذقية أكثر من 300 توشيح وعشرات الأدوار،عندي وقت، وليس عندي وقت، فأنا الرجل الوحيد في البيت، وأمامي متطلبات ٌ كثيرة في تأمين متطلبات المنزل، «وفي هذا السياق،وتبريرا ً لقلة إنتاجه يقول: لدي البضاعة الموسيقية بأكثر مما يتصور الإنسان وليس لدي الوقت.
في لقاء ٍ معه،سألته:أخيرا ً ماذا تضيف:
أجاب بود: ما تتركني أحكي على راحتي، إذا بدك تتركني لحالي احك عن الموسيقا بحكي ثلات سنين».
كان ممكن لمنتدى بيت العجان أن يستمر لو تبناه زياد عجان (ابن أخ محمود) ويفترض أن يكون وريثه الشرعي في متابعاته الموسيقية والثقافية، وكان ممكن لكتاب كابي عن أوغاريت أن يساهم بجزء ٍ مهم ٍ،ولبيته أن يتحول إلى منارة للعلم والثقافة، وكان،وكان يا ما كان، كان في قديم اللاذقية قبل الآن.