وإما سقوط مصر مرة اخرى في ظلام الاستبداد الذي يدّعي في أدبياته الجامدة تفويضاً إلهياً يمنحه الصلاحية لرسم الخط الفاصل بين كفر البشر وإيمانهم، وجدارتهم بالحياة، أو قطاف أعناقهم بسيف الفتوى، هذان الخياران الماثلان اليوم أمام المصريين مكلفان بدرجات متفاوتة، فالانتصار الحاسم على الفكر التكفيري ومروجيه، لن يمر دون تضحيات ودماء وصدامات شعبية في ساعة مفصلية ما بعدها لن يكون كما قبلها، وسقوط مصر مرة أخرى في ليل الاستبداد المسلح بالتفويض الإلهي المزعوم لن يمر أيضاً دون استنفار المدّ الظلامي الذي اجتاح المنطقة العربية منذ عامين ونصف العام، تحت مسمى الربيع العربي الذي هزَّ استقرار المنطقة وعبث بنسيجها الاجتماعي، وسعى لإعادة تشكيلها على قواعد جاهلية، تبدأ بعصبية العشيرة والقبيلة ولا تنتهي عند عصبية المذهب والطائفة !
هذا يعني أن الموجة الثورية التي شهدتها مصر في الثلاثين من حزيران، وقطفت ثمارها بزخم شعبي منقطع النظير، يجب ألا تتوقف في منتصف الطريق، وتطمئن إلى مفاتيح النصر التي استعملتها بمهارة في فتح الأبواب أمام المصريين للعبور إلى ساحات الحرية، فبنية النظام الظلامي الذي سقط، ما زالت قادرة على هدم أعمدة الهيكل، وإضرام النار في كل الاتجاهات إذا لم يتم تفكيكها وعزلها والاقتصاص من رؤوس مراكز القرار فيها، والدعوة البريئة إلى استيعابها وإدخالها في نسيج الشراكة المقترحة لإرساء قواعد المستقبل، تبدو دعوة ساذجة في ضوء تجارب المصريين المرة مع جماعة مخترقة بأصابع الاستخبارات الدولية، منذ تأسيسها عام 1928، وتستطيع الكمون تحت الأرض لوقت طويل، ثم حينما تلمع فرصتها، فهي لا تغتنمها الا بحد السيف، ولا تتخلى عنها إلا ببحار من الدماء والقتلى والخراب !
للثورة قانونها في كل حقب التاريخ، وهو القانون الذي لا يُستخرج من مصانع الشمع، بل من مصانع الفولاذ، والمزاوجة بين قسوته وصلابته ومرونة الديمقراطية، هي المهمة الصعبة التي يتوجب على الثوار المصريين أن يبدعوا فلسفتها،فالديمقراطية لا تتسع لشبكات القتل ومحترفي صناعة الديناميت،والديمقراطية لا تتسع لمن يدعي أنه يمتلك تفويضاً إلهياً لحشر البشر في الجحيم، أو تمليكهم صكوك الجنة، والديمقراطية أخيراً ليست صندوق اقتراع فحسب، بل هي ثقافة مجتمعية قبل كل شيء، وهي حوار فكري وسياسي وبرامج نهضة يتنافس الناس على كسب انصارها دون اكراه ودون تدليس، وتجربة القوى الظلامية في حكم مصر لم يكن فيها شيء من ذلك كله، فالمجتمع كان بالنسبة لها هو الإخوان ومشتقاتهم فقط، والثقافة في هذا المجتمع هي النصوص البالية التي سطرها مرشدوهم ومنظروهم من حسن البنا وسيد قطب، الى مهدي عاكف ومحمد بديع، فلتتشبث ثورة الثلاثين من حزيران بقانونها الفولاذي، وتنظف شوارعها من مروجي التكفير، وتعيد إرساء الهرم على قاعدته، قبل أن تغتالها سيوف فتاوى الضلال !