أمام تماثيل الآلهة الأصلية, يشرح ويوضح يكشف ويعمق المعلومات, ومن بعد.. موسيقا المزهر والوتريات تؤكد بأن الطقس نجح في أن يجعلك ترتحل في الزمان والمكان تأسرك تلك الشعائر فلا تكتشف أنك أمضيت من الوقت طويلا إلا عندما تصبح خارج القاعة الشامية في المتحف الوطني بدمشق, وهناك عند العتبة تحف بك التماثيل فترتعش, تسحبك النواويس الأثرية رغم كرهك للموت فتتمنى قيلولة تخفف عنك انغماسك في الطقس, لكنك من جديد أنت مخفور بعشتار وبعل وعنات..لا مفر..لا اكتمال للطقس إلا بالتفاصيل, وأي خطأ يكسر المهابة يسقط بك إلى الرفض والإنكار.
ربما هذا ما أرادت الأمانة العامة لاحتفالية دمشق عاصمة للثقافة العربية أن تحدثه من تظاهرة (ألف تحفة وتحفة) التي تقيمها بالتعاون مع المديرية العامة للآثار والمتاحف, حيث تقدم للمرة الأولى أمام الجمهور, في احتفال شهري مخصص, مجموعة من القطع الأثرية المستخرجة من مستودعات مديرية الآثار للمرة الأولى, هذه القطع ينتظمها موضوع واحد, وتشفع بمحاضرة تبين أهميتها, يلي ذلك حفل موسيقى على صلة بدرجة ما مع الزمان والمكان اللذين تعود إلهيما القطع.
في يوم الجمعة الأول من هذا شهر كان الاحتفال بعنوان (عندما قام الإنسان بنحت الأحجار للآلهة,خمس قطع).
قليل من الضوء..قليل من العتمة تليق بالإله بعل أو رشف الأوغاريتين, ونور مركز على تماثيلهم الأصلية في صدر القاعة..ضوء لابد أنه صناعي -هكذا همست لنفسي- موجه على شاشة تعكس صورا للآلهة المذكورة ومحاضر يؤشر بثقة على أجزاء الصور بقصد توضيح التفاصيل وكشف دلالاتها..
الأحجار المنحوتة من الحجر الكلسي المحلي تصور الآلهة بلباس تنتمي القبعة فيه إلى الأناضول أحيانا, ولباس الوسط إلى الفراعنة, وضعية الوقوف شبيهة بالتماثيل المصرية القديمة, إضافة إلى تأثيرات فنية كنعانية إيجية, قبرصية, نموذج النحت محلي, إذا النمط الفني مركب ومتنوع الأبعاد شبيه بما كان منتشرا على الساحل السوري طيلة الألف الثانية قبل الميلاد, وهي الفترة التي تم قبلها رفع الإله إيل إلى السماء وناب عنه الإله بعل على الأرض, صور متشابهة لإله ذاته استمرت أكثر من ألف عام في الحضارة السورية القديمة, دل على ذلك وحدة الأسلوب الفني المحكوم بنظرية عبادة واحدة من معابد عدة (أوغاريت, القدبون, أرسلان طاش) هذه هي الجرعة الكبرى التي هيأنا بها الباحث ميشيل مقدسي للانتقال إلى الشعيرة التالية
الموسيقا مع إدراكه لخطر الموسيقا على جمهوريته المثالية أخرج أفلاطون الموسيقا مشبها إياها بالسحر قائلا بأن القوى التي تمارسها الموسيقا على العواطف غير مأمونة, لكنه أخرج من تلك الموسيقا موسيقا الوتريات مؤكدا أنها مأمونة وذات بعد تهذيبي على الناشئة والمستمعين, هذا ما كانت الحضارة الأرامية والكنعانية والسومرية توظفه لخدمة طقوسها التعبدية وهو ما حاول الموسيقي حسام بريمو في إعداده لثلاث مقطوعات تحاكي أناساً ذاك الزمان حينا, وحينا آخر تحاكي النحات الجالس المؤمن وهو يحنو على بشرة الحجر ليصبح صورة الإله المقدسة.
لا أدري إذا كان ترك مقطوعته الحيوية الراقصة كختام بقصد إيقاظنا من خدرنا الطقسي بتذكيرنا بأننا لسنا في طقس, إنما في حفل, لكن ماذا عليك أن تفعل إذا كنت بمجرد أن تخرج من القاعة تستلمك شعيرة معروضات حديقة المتحف, ليس كضيوف على حياتك اليوم, ومن فرط تواضعها لا تشعرك بأنك ضيف على حياتها الآمسة..ثمَّ من يدعوك إلى طقس آخر في أول جمعة نيسانية..