وبالمقابل فإن أولئك الذين دبروا الانفصال عام 1961 صنعوا تاريخاً أيضاً. والناس عموماً يصنعون سيئاتهم مثلما يصنعون حسناتهم، وهذه الحسنات والسيئات هي التاريخ والله وحده أعلم أي الكفتين هي الراجحة في يوم القيامة، وفي أي سياق سيكون تاريخهم. ومع ذلك، فإن من يدونون التاريخ-مهما كانت درجة الموضوعية التي يتصفون بها عالية أو متدنية-
لايستطيعون في حالات كثيرة تخطي المحطات التي ترسم تأثيراتها بقوة على مسار التاريخ. مثلاً، من يستطيع عند كتابة التاريخ أن يتجاهل نكسة حزيران عام 1967؟. ومن بالمقابل يستطيع أن يتجاهل حرب تشرين عام 1973 ومن بعدها حرب الجولان وجبل الشيخ؟ ومن يستطيع أيضاً أن يتجاهل وقائع الحرب الأهلية في لبنان بدءاً من العام 1975؟ ومن يستطيع أن يتجاهل الدور السوري في إنقاذ لبنان من خطر تفتيته ووقف نزيف الدم فيه؟. ومن يستطيع أيضاً أن يتجاهل احتلال اسرائيل لجنوب لبنان عام 1979 ثم احتلالها لبيروت عام 1982 ؟. ومن يستطيع وهو يدون التاريخ أن يتجاهل تلك الضربات التي أجبرت المارينز الأميركيين والجنود الفرنسيين على مغادرة بيروت لا يلوون على شيء بعد أن كانت طائرات الأسطول السادس الأميركي تشن غاراتها على مواقع الجيش السوري في جبل لبنان وفي البقاع؟ ثم من يستطيع أن يتجاهل المقاومة اللبنانية التي نجحت في حمل العدو الصهيوني على الانسحاب من جنوب لبنان في 25 أيار 2000 ؟ ومن يستطيع إنكار الهزيمة التي ألحقتها المقاومة اللبنانية بالعدو في حرب تموز عام 2006؟ ومن يستطيع إنكار الدور السوري في دعم هذه المقاومة طوال الوقت وأداء دور قاعدة الاستناد الخلفية لها، وبدون ذلك ما كان بوسعها أن تصنع التاريخ المشرف الذي صنعت؟.
بالتأكيد لايستطيع التاريخ مهما حاول البعض التلاعب به أن يتجاهل هذه الحقائق لأنها أكبر بكثير من كل تزييف. وإذا حاول أحد المغرضين تزوير التاريخ بتجاهل معلومة ما في مكان وجد نفسه عاجزاً عن مواصلة هذا التجاهل في مكان آخر، لأن التاريخ وإن برزت فيه المحطات إلا أنه مثل الطريق المعبد أو خط السكة الحديدية الذي لابد من اجتيازه للتنقل بين المحطات.
لكن الوجه الأبيض الذي يمكن للتاريخ أن يبرزه ويدونه يعترضه بالمقابل وجه أسود . مثلاً: من هم أولئك الذين حاولوا إشغال المقاومة الفلسطينية عن مواجهة العدو الصهيوني بإغراقها في حرب أهلية داخل لبنان؟. ومن هم أولئك الذين حاولوا مشاغلة سورية عن مواجهة العدو الصهيوني أو مخاطر الحرب الأهلية في لبنان بشن حرب اغتيالات وإرهاب على السوريين في سورية نفسها؟. ومن هم أولئك الذين استهدفوا العلماء والخبراء السوريين بالاغتيال وكأنهم أرادوا تجريد سورية من تلك الكفاءات لصالح العدو الصهيوني؟ من وظف هؤلاء للقيام بتلك الأدوار؟.
وهل صنع هؤلاء لأنفسهم تاريخاً أبيض أم أسود؟.
والآن، وفي هذه الظروف التي تتكالب فيها الكثير من الجهات من حولنا على إثارة الفتن ومحاولة أخذ سورية الى موقع الخضوع للامبريالية التي هي الحليف الثابت للصهيونية، فإن هناك العديد من التساؤلات التي تستوجب التوقف عندها بتمعن.
ومن هذه التساؤلات نكتفي بالتالي:
1- إذا وضع شخص يده في يد جماعة أو أكثر أو في يد أفراد هو يعرف بشكل جلي وجود ارتباطات عمالة لهم، فهل فعلته هذه تشرفه أم تنقله بشكل تلقائي إلى خانة العملاء، فيصير واحداً منهم؟.
2- إذا وضع شخص يده في أيدي أشخاص يمارسون القتل والتخريب، ولم يكن هو نفسه قاتلاً أو مخرباً، فهل يكون شريكاً لهم بالمحصلة أم يعد بريئاً من أفعالهم؟.
3- إذا أقدم أحد على فعل يسهل للمتآمرين تنفيذ خططهم التآمرية كأن يستغلوه لممارسة القتل والتخريب أو إرباك دفاعات الوطن، فهل هو شريك في التآمر أم لا؟
4- إذا كان الفعل الذي يقوم به المرء يضعف الوطن بالمحصلة، ويقوي أعداء هذا الوطن. فهل يكون عمله عندئذ خدمة للأعداء أم يكون مبرأ من هذه الخدمة بدعوى أنه لم يقصد ذلك؟.
5- إذا وجد شخص ما نفسه يقف على أرض واحدة مع أعداء الوطن من امبرياليين وصهاينة، فهل هو من يجندهم في خدمة ما يريد أم أنهم هم من يجندونه في خدمة أهدافهم؟. أليست العبرة بالعواقب كما يقال وليس بالنوايا؟.
6- إذا كان شخص ما قد تورط في الماضي في نشاط إرهابي تبين من مسار الأحداث أنه كان لخدمة العدو الصهيوني الامبريالي، ولم يراجع نفسه ولم يتراجع عن خطيئته، بل عاد ليكرر الفعل نفسه، ألا يكون في هذه الحالة أسيراً لعمالته، ومن العبث أن يفكر الآخرون باحتمال توبته؟.
7- في اللحظة التي يجد فيها البعض مشاعره تحت تأثير فضائيات الفتن على قناعاته وحالته النفسية، وقد توافق مع المنطق الامبريالي، وصار يستجدي تدخل حلف الناتو ضد بني قومه على أحر من الجمر، ألا يجدر به عندئذ أن يتوقف قليلاً مع ذاته، وأن يفكر بوجود خطأ ما وضعه في مثل هذه الحالة النفسية، وأن يسعى للتخلص من هذه الحالة والبحث عن الحقيقة المغيبة تحت أغطية التضليل؟.
8- ألا يدرك الإعلاميون العاملون في فضائيات الفتن سواء في صناعة الأخبار والأفلام المفبركة أو في إذاعتها أن ما يفعلونه يرتقي إلى مستوى جريمة إثارة الفتن، والفتنة أشد من القتل؟. هل يبررون انخراطهم الإجرامي في هذه اللعبة بحاجتهم المادية أم يزعمون أنهم مقتنعون؟. مهما كان الجواب عليهم أن يفهموا بأن ضحاياهم يمكن أن ينتقموا منهم، وأن الانتقام عند طالبه يأتي بأهون الأسباب. ولا داعي لأن نقول لهم بأن الاحتياطات الأمنية التي اتخذها أصحاب تلك الفضائيات لا تحول دون إمكانية تعرض العاملين فيها لانتقام بوسائل بسيطة ومتوفرة في كل مكان، وهي بالنسبة لهم أسوأ من القتل ومن الذبح الذي يحرضون عليه.
هذه بعض الأسئلة، وهناك غيرها الكثير. والمهم هو أن يكون واضحاً بأن أعداء الحق من امبرياليين وصهاينة لايمكن أن يكونوا أنصاراً للحق، فهم أهل الباطل وأنصار الباطل. وأما تلك الخشب المسندة الرجعية التي تعمل في خدمتهم فهي أكثر من معروفة وأكثر من مكشوفة. ويبقى أن كلمة الحق تتمثل في القول (وبشر القاتل بالقتل ولو بعد حين). ويبقى أيضاً أن صناعة التاريخ بمعناه الإيجابي والانساني شيء وصناعة القتل شيء آخر. فالتاريخ الحق يصنعه بشر يناضلون من أجل كرامة وتحرر وتقدم وتطور الإنسان، أما القتل من أجل أهداف معاكسة فإنه عمل مضاد للمسار التقدمي للتاريخ، ويمثل الوجه الأسود للتاريخ.