فجأة ودون سابق إنذار استعادت حمى ما يسمى «الربيع العربي» روحها الشيطانية الخبيثة في كل من العراق ولبنان دفعة واحدة، ليستعيد معها أبناء المنطقة والعالم ذكريات ما يقارب عشر سنوات من الفوضى الأميركية غير الخلاقة أو ما يسمى «الثورات» التي ركبها تنظيم الإخوان المسلمين الإرهابي وحولوها إلى برك من الدماء والدمار والموت والتدخل الخارجي، وفجأة انبرت بعض الشرائح الاجتماعية المدفوعة بتيارات وأحزاب سياسية معروفة الولاء ــ وبعضها عميل لإسرائيل والنظام السعودي ــ تحت عناوين مطلبية محقة لتشعل الساحتين، متذرعة بتلكؤ الحكومتين في البلدين عن تلبية هذه المطالب، بسبب ظروف الحرب على الارهاب التي انشغلت فيها المنطقة بشكل عام والعراق ولبنان بشكل خاص، إذ كان العراق «بحشده الشعبي» الرديف للجيش العراقي ولبنان «بمقاومته الوطنية الباسلة» شريكي سورية في القضاء شبه الكامل على تنظيم «داعش» الإرهابي المتوحش ــ وهو بالمناسبة صنيعة للولايات المتحدة الأميركية وحلفائها في المنطقة ــ في السنوات الماضية.
لو جئنا إلى مسألة توقيت ما شهده كل من لبنان والعراق من احتجاجات منادية بشعارات الإصلاح تارة وتارة بما يسمى «إسقاط النظام» والدعوة للدخول في الفراغ الأمني والحكومي بكل ما يعنيه ذلك من انهيار اقتصادي وأمني لا يمكن التكهن بتداعياتهما، فلن نتأخر كثيراً في اكتشاف الحقيقة الواضحة وضوح الشمس وهي تورط الولايات المتحدة الأميركية حتى النخاع بكل ما يجري، وخاصة بعد التوترات التي شهدتها منطقة الخليج في الأشهر الماضية وحرب الناقلات التي تفرعت عنها والتي كادت أن تشعل حرباً مدمرة، وكذلك فشل التحالف السعودي العدواني في حربه على اليمن وقيام المقاومة اليمنية بنقل المعركة إلى داخل الأراضي السعودية، وصولا إلى تمكن حزب الله في لبنان من إفشال كل المحاولات الإسرائيلية لتغيير قواعد الاشتباك وصياغة معادلات جديدة على مستوى المنطقة وتغلبه على حزم العقوبات المالية المفروضة على لبنان، والأهم من ذلك هو اقتراب سورية من إنجاز انتصارها الحاسم على الارهاب والعودة إلى سكة التعافي من جديد، حيث بدت واشنطن عازمة على إحياء فوضاها من جديد في العراق وفي لبنان من أجل التشويش على الانتصار وجعله أكثر تكلفة عبر زج الحشد الشعبي في العراق والمقاومة في لبنان كطرف في ما يجري.
منذ بداية الحراكين الشعبيين «المسيسين» لاحظ المراقبون أن ما يطرح ليس كله مطالب إصلاحية متعلقة بالاقتصاد، وإنما هناك شعارات ــ وخاصة في لبنان ــ غايتها المس بسلاح المقاومة الذي حمى لبنان وحرره مرتين؛ مرة من إسرائيل ومرة من التنظيمات الارهابية المتطرفة، وهذا مطلب أميركي إسرائيلي معروف، كما بدا واضحاً أيضاً أن ثمة قوى خفية تلعب بالحراكين الشعبيين وتسيّرهما باتجاه التصعيد والعنف، في الوقت الذي سعت فيه السلطات إلى تقديم أوراق إصلاحية وخطابات تهدئة تساهم في إنقاذ البلدين من أزماتهما الاقتصادية والمعيشية، وهذه القوى ــ وخاصة في لبنان ــ تبذل أقصى ما لديها من قوة وتحريض لجرّ الشارع إلى حافة الحرب الأهلية وذلك لإشغال المقاومة وإلهائها عن الصراع المحوري مع العدو الصهيوني المتربص بلبنان والمنطقة شراً.
أما في العراق فقد كان واضحا بما لايدع مجالا للشك أن واشنطن مستاءة جداً من التحالف الايراني العراقي ومن العلاقات المتنامية بين البلدين والتي تعززت كثيراً بعد الغزو العراق عام 2003 وخلال الحرب مع تنظيم «داعش» في السنوات الخمس الماضية، إذ لا أحد يستطيع أن ينكر الدعم الذي قدمته الثورة الإسلامية في إيران لكل من الشعبين في العراق وسورية من أجل مواجهة تنظيم «داعش» الإرهابي، أو الدعم الذي قدمته إيران للمقاومة في كل من لبنان وفلسطين ــ ولا تزال ــ من أجل مواجهة الكيان الصهيوني الذي يحتل الأرض ويغتصب الحقوق ويطمح للسيطرة على كل المنطقة.
ولعل أكثر ما يلفت النظر في هذين الحراكين هو التغطية الإعلامية المكثفة والمشبوهة ــ ولكل قناة تمويلها المشبوه، إما من المشيخات الداعمة للإرهاب وإما من السفارات المتدخلة في الوضع اللبناني ــ والدخول غير المهني على خط الاحتجاجات وممارسة أدوار تتقاطع وتتطابق كثيراً مع الدور الخبيث الذي لعبته كل من قناتي الجزيرة والعربية، وفتح الهواء 24/24 ساعة من أجل شتم رموز وطنية يجمع عليها اللبنانيون والإساءة إلى تضحياتها والمطالبة بنزع سلاح المقاومة وذلك بعد أن وضع هذا السلاح حداً للعربدة الإسرائيلية في لبنان، وساهم في استتباب الأمن والاستقرار داخل حدود لبنان، وكان له دور كبير جداً في إفشال المشاريع الأميركية في عموم المنطقة، كما ساهم إلى حد كبير في كبح الجموح الأميركي العدواني باتجاه إيران.
إذاً هي مرة جديدة تحاول فيها واشنطن العاجزة عن فرض أجنداتها على المنطقة وشعوبها، العودة إلى سلاح الفوضى من أجل إنهاك خصومها بغية الانقضاض عليهم في اللحظة المناسبة، كما فعلت في العراق حين حاصرته مدة اثني عشر عاما ثم غزته ودمرته بذرائع كاذبة، ولكن معطيات السنوات الماضية تؤكد أن أجندات واشنطن باتت مكشوفة ومصيرها الفشل مهما بدلت في عناوينها ومهما اخترعت لها من ذرائع، لأن في المنطقة محورا مقاوما رسخ وجوده وراكم إنجازاته ولن يسمح لواشنطن ومن معها أن تربح جولة جديدة في الصراع الدائر مهما كلف الأمر، في حين كشفت تطورات الأسبوعين الماضيين عن عقم خيارات حلفاء اميركا وأدواتها في المنطقة عندما سعَوا بكل حماقة وغباء إلى تجريب المجرب، وهم يعلمون أن واشنطن في طور الانسحاب والتراجع وليست من النوع الذي يراهن عليه بعد أن خذلت حلفاءها في المنطقة مرات عديدة بدءا من شاه إيران المخلوع وصولاً إلى عميليها في مصر المقتول أنور السادات والمخلوع حسني مبارك وكذلك الرئيس «الإخواني» محمد مرسي، ولعل تجربة ما يسمى «المعارضة» المسلحة في سورية وكذلك الميليشيات الكردية الانفصالية في الشمال السوري تكفي للبرهان على أن من يراهن على أميركا لا بد أن يبوء بالخذلان والخيبة والفشل.. فلينتظر عملاء اليوم في المنطقة المصيرَ ذاته الذي ذاقه ولقيه عملاء الأمس القريب والبعيد.