فرحها وحزنها ...
كانت الشمس تغتصب سحباً رمادية كي تخرج لسانها للصباح, كنت مشغولة بترتيب أبجدياتي التي سأطلق عنانها وأنا أطوق عنقك, وأنهمر عليك قبلاً ودموعاً, أعدت استظهار كلماتك الأخيرة مثل تلميذ: (عندما سأراك سأصفعك ثم أقبلك.. هذا شرطي الوحيد.)
أحقاً سأراك ثانية؟ كان الاحتمال الأصعب أن أعترف به وأقره , كنتَ رجلاً معجوناً بمزيج من قديس وشيطان... من حقد وظلم, وحنان .. (لن أبقى أكثر من ساعة يا ريقي.) هذا هو قرارك, هل لديّ خيار آخر سوى القبول بقراراتك التي تحفر في روحي الألم..
صوت أمي أفرغ حنانه في شبكة ممزقة يتخبط فيها قلبي تحت صليل قسوتك:
- انتبهي فالوضع غير آمن, والوطن ينزف أبناءه.
آه يا أمي من هذا الوطن الذي لا يقوم إلا على ركامنا, ولا يزهر إلا من دمنا, ولا يشبع إلا من عظامنا..
أطلت دمشق بغطرسة المدن تلوح ضفائرها من البعيد مثل غجرية عارية, آخر مرة زرنا دمشق معاً كان لاستلام جائزة عن إحدى قصصي التي كتبتها عنك وعني, نزلنا في الصالحية, مشينا حتى البريد ومن هناك أطل حي الروضة بفيلاته الفخمة .. رافقتني حتى مدخل وزارة الثقافة, أصلحتَ تسريحة شعري, وخففتَ من أحمر شفاهي, قلت لي: ما أجملك يا وفاء لست بحاجة لكل هذا التبرج, ادخلي وكوني مطمئنة, سأتابعك على التلفزيون .
يومها تعثرت حروفي وأنا أشرح للمذيعة عنك, خشيت أن تراك تسبح عارياً بين حروفي, خشيت أن تسرقك مني, فكذبت يومها وقلت أن قصتي مهداة لوطني.. الآن عرفت وتيقنت بأنني لم أكذب يا أمجد لأنك وطني الذي سافر وترك لي الغربة... كنتَ بانتظاري على باب الوزارة تقف مثل متسول, ركضت إليك وغصت بين يديك الحارتين, ولولا بعض المتطفلين في الساحة لكنا...... تضحكني كما تبكيني هذه الذكريات البعيدة..
صوت الحافلة يأتي من البعيد مشرَّباً بصوت فيروز التي تهمس: وطني.. أنا على بابك قصيدة كتبتها الريح العنيدة أنا حجرة أنا سوسنة يا وطني....هل يذكر أمجد هذه الأغنية؟ كنا في بيته مع شلة من الأصدقاء, كان توقيع كتابه الثالث, صاح بين الحضور: أهدي كتابي لحبيبتي التي وفرت كل الأسلحة الثقيلة والخفيفة لاحتلال قلبي. صوت فيروز يذبح الغربة, ويرسم الوطن بلون الدم, هو يعرف بأنني أعشقها, صمت قليلاً وقال: يجب أن تغني يا وفاء فصوتك فيروزي.. نظرت إليه بتحدٍّ, كيف أغني, صوتي له وحده, لا يخرج إلا في خلواتنا, حيث ينام خدي فوق صدره, يستيقظ صوتي كطائر أبيض يرفرف فوق محنتنا .. (راجعين يا هوى .. أعطني الناي وغني .. طلّ وسألني إذا نيسان دق الباب) كنا في أول نيسان نتسابق على اختراع الكذب, مرة رن الهاتف وقال: سأتحدى والدك وأخطفك ونتزوج, ومرة قال لي: افتحي الباب أنا أتسلح بدبابة ورشاش أسامة بن لادن سأبيد عائلتك إن لم توافق على زواجنا.. كنت أصدقه, أهرع إلى نافذتي , ثم أذكر أن نيسان يبدأ حيث ينتهي الصدق.. وكنت أضحك مثل طفل وأنا أتلقى كذبه الحلو.
نيسان هذا العام كان أصدق من أن نكذِّبه .. قتل في المدن, وتهجير للعائلات من مختلف الطوائف.. كنا نتباهى بأننا ننتمي لطائفة الوطن.. لم نكن نفكر بهذه الأمور التافهة قبل محنة بلادنا.. فأمجد حبيبي حتى لو كان دون طائفة .. من قال أن للحب طوائف ومذاهب؟ وإذا لم تصدقوا اسألوا ابن عربي ..
الحافلة تحلق على دوار الأمويين, تعبر الساحات, لون الوجوه أغبر مثل سماء دمشق, المطار لا زال بعيداً .. وموعد الطائرة في الثانية عشرة ظهراً.. لدي وقت طويل, أعرف بأنني وصلت باكراً, وبأن الانتظار لم أعرفه إلا مع أمجد .. لماذا يفكر اليوم بالعودة, والوطن مُحاصر من الداخل والخارج؟
عندما قرر السفر قال لي: زواجنا مستحيل, قد ننتظر أزمنة ضوئية حتى نقتل مفهوم الطوائف .. يومها خرج عن طوره وصاح: أنت جبانة .. منافقة رفضتِ زواجنا ورفضت أن نضع أهلنا تحت الأمر الواقع .. ثم ترك يدي, وهرول في الأزقة مثل المجنون. اليوم يهاتفني كي يقول أنا عائد, أبهذه البساطة يعود, ويطلب مني انتظاراً أكثر دموية!
لا أدري كيف أخبرت أمي بأن هناك أمسية ثقافية لأحد الأصدقاء في العاصمة, وقد وجهت لي دعوة رسمية, ولا أدري لماذا شعرت بأنني مكشوفة أمامها بكذبي ونفاقي, لم ترد, ولم تمانع كعادتها فهي تعرف بأن لا شيء يمنعني عن أمجد.
كانت ليلة طويلة. فتحت ألبوم الصور.. ياه يا أمجد.. صور البحر, والجبل والسهل والوادي, كم هو جميل وبهي وطننا, هذه صورة حانقة تنظر لي وأنا أمارس عادة التدخين, ما أروع غضبك, تخطف لفافة التبغ من فمي وتدوسها بجنون.. أتحداك وأشعل أخرى, فتعانقني, ونذوب في لحظات مجنونة مثل حبنا القتيل.. يبعدني عن التدخين بالقبل والعناق, وكنت أبعده عن حزنه بالغناء, والعناد الطفولي الذي كنت أفتعله كي يبقى سعيداً بي.
دقت الساعة الحادية عشرة .. ساعة كاملة تفصلني عنك, ساعة كاملة وبعدها ستدخل البلاد غير آمن كما خرجتها..ستون دقيقة تساوي عمر هذا الكون بهزاته وبراكينه, ودماره وحنوّه .. ستعلن المضيفة بعد قليل عن وصول طائرتك, سألمحك تترنح فوق السلم تحمل حبي بين أعطافك, سأركض كعادتي, يتلقفك شوقي ولهفتي, سأحمل حقائب غربتك, سأختبئ تحت جناحك , وسنهرع إلى شوارع حمص العتيقة, سنتسكع بين الحدائق العامة, سنزور الكنائس والجوامع... سنصعد إلى القلعة.. كم ستبدو حمص جميلة من الأعلى, سنحدد مكان حارتنا مثلما كنا نفعل ونحن صغار, ستقول لي: هذا غسيل أمي يلوح فوق سطح بيتنا, وأرد عليك: وهذه دراجتي تستلقي على نافذتنا.
ساعة كاملة تفصل ما بين عودة كلٌّ منا إلى وطنه..
جلست على مقعد الانتظار. هل ستشم رائحة فمي, وتفحص أسناني وتقيس درجة الاصفرار كما يفعلون مع الفرس الأصيلة؟ لا زلت أتجرع سمي يا أمجد .. ولا زال الدخان يعرّش مثل نبات شيطاني في داخلي. .شعري الذي كان يغطي صدرك قصصته, لم أعد كما تركتني..أتلفني غيابك.. قد لا تعرفني, قد تنكرني, قد تعود أدراجك من حيث أتيت.. وفاء لم تعد وفاء.
لكن كيف سأعانقك والوطن يُذبح على قارعة المؤامرات؟ كيف سنتسكع في شوارع حمص, والبنادق تُصوب على قلوبنا؟
لن ترى حيّنا من جديد, لن نتسابق لفتح الأبواب كما كنا نفعل ونحن صغار فقد انقسم الحي, والأبواب أُغلقت, والنوافذ التي كان يتدلى منها الياسمين طُمست, وباتت العيون تحاذر أن تتلاقى فقد طغى الخوف من المجهول على الجميع .. إلى أين ستعود, والوطن يحترق .. ابق حيث أنت, على الأقل لا زالت حارتنا تتربع فوق عرش غربتك كما هي دون أن تمسها رصاصة طائشة, أو صوت يدعو الناس للهدم والتخريب.
خرجت مسرعة من صالة الانتظار, أعرف أنك ستبحث عني, هذه المرة لن ترشدك رائحتي, فوردة الشام فوق ثيابي غادرها الأريج, وطغت رائحة البارود.. كان صوت المضيفة يعلن وصول الطائرة القادمة من البعيد, بعد ذلك تلاشى الصوت, والمطار, و....