تتضمن هذه القصص شيئاً من مفارقات متكئة على طرافة لا تخلو من كوميديا سوداء مفتعلة في الكثير من الأحيان. فعلى سبيل المثال نجد في قصة (خطبة مشبهة بالفعل) بطلها الذي يوافق على الزواج من المرأة العجوز التي صدمها بسيارته وكسر رجلها لأنها هددته وهي في المستشفى أنها ستلاحقه قانونياً في حال لم يخضع لرغبتها، ولاشك أن من يقود سيارة يعرف جيداً أن حوادث السير مصنفة ضمن الجنح، أي ليس هناك عقوبات كبيرة، بل السجن لأشهر معدودة خير للشاب من ربط مصيره بمتصابية استغلالية. ولكن الكاتب اصطنع هذه النهاية حتى يضحك القارئ من شدة المفارقة التي حرص على تقديمها في خواتيم بعض قصصه.
وكرر الأمر ذاته في قصة (في مهب الظن) فبطلها- كمعظم أبطال القصص- يقع سريعاً في الحب، والمعشوقة في غاية الجمال- مثل كل بطلات القصص- أما المختلف في هذه القصة فهو أن بطلها يقرر الابتعاد عن الفتاة التي سلبت عقله والزواج من غيرها كي ينساها، لظنه أنها متزوجة، ولا يعرف أن الشاب الذي يتواجد معها في الصيدلية التي تعمل بها هو أخوها لو لم تخبره بذلك!. ومثل هذه المصادفات جعلت القصص غير مقنعة على أكثر من صعيد. كذلك في قصة (صخب) نجد الرجال يستنكرون تصرفات الفتاة التي تحاول إغواءهم من نافذة حجرتها، وهم يجهلون أنها لا تبصر، رغم أن الأحداث تجري في قرية نائية، أي من المفترض أن يعرف السكان بعضهم جيداً.
قدم القاص في مجمل قصصه أطروحات مباشرة، حتى اقترب بعضها من حدود الحكايات الوعظية، كما في قصة (الضبع) التي يتحدث بطلها الذي يصرح بأمنيته أن يكون ضبعاً أثناء حديثه مع الضبع الذي ينتقد باستفاضة حروب البشر وفوضاهم، ثم يكتب على جذع شجرة بعدما غدر بالرجل وافترسه: (أدعو له أن يصبح ضبعاً في أجياله القادمة.. فهو يستحق ذلك.. صدقوني) ص25. فلم يكتف القاص بأن جعل هذا الضبع ملماً بتاريخ البشرية، بل جعله أيضاً يجيد الكتابة، ويستحسن السخرية!.
عزز حضور القاص استعمال ضمير المتكلم، وفي حال استخدام ضمائر أخرى فالراوي هو المتكلم الذي يعرف كل شيء عن المروي عنه، ليس في الزمن الذي تجري فيه الواقعة فحسب، بل بما قبل حدوثها أو بعده: (ظهرت أوردته بشكل واضح للمرة الأولى في حياته) ص31. في قصة (تلك الليلة)، ويتكرر الأمر ذاته في قصة أخرى: (ماذا لو علم أن الفتاة عادت إلى بيتها وبدأت بتجهيز الطعام لزوجها الذي سيأتي بعد قليل) ص17. قصة (امتحان).
وبهذه الهيمنة على مفاصل القصة جعل النص مغلقاً، لا مجال فيه للتخييل والتأويل، حتى انحرفت بعض القصص عن تقنيات القص واقتربت من الخاطرة الوجدانية كما في قصة (معالم قاسية) التي يتحدث فيها القاص صراحة عن شخصياته، وعن الكتابة عن هؤلاء الشخصيات أيضاً: (لا أستطيع اختصار تلك المعالم التي ارتسمت في وجهها ببضع كلمات، كما أنني لا أستطيع أن أبقى صامتاً دون الإفصاح عن ذلك الوجه الذي تعجز اللوحات عن رسم خطوطه بدقة، فالحروف ستنسكب على الورقة رغماً عنك، تجاعيد ذلك الوجه أخفت وراءها جهاد سنوات عديدة في معركة الحياة) ص28.
وكان طغيان رؤية القاص على حساب عناصر القص الرئيسية التي تشترط عدم التدخل المباشر في السرد، ولكن القاص كسر سياق السرد أحياناً لحشر تعليقات لا مبرر لها: ( كما يقولون: كمل النقل بالزعرور) ص73. في قصة (شكراً لأنك أحببتني). وربما قام بالتعليق والتفسير: (طبعاً الرجل يتكلم بينه وبين نفسه، دون أن يشعر السائق بذلك) ص89. قصة (توقف).
حاول القاص إضفاء جمالٍ على سرده النثري بتطعيمه بجمل تستعين بترف الشعر: (أثناء فترة الخطوبة وبينما هما يسيران على حبات رمال الشاطئ الذهبية التي بدت وكأنها تتراقص تحت أشعة الشمس المشرقة في هذا اليوم الربيعي، وبينما كانت أمواج البحر الهادئ تدغدغ قدميهما، كان الشاب الوسيم ينسج خيوط شعر الغزل على مسامع فتاته ذات الخدود الوردية، كان همه الوحيد أن يظهر لها حبه الجم) ص79. قصة (بيّض الفال). ولكن هذا لم يغن القصة جمالياً كما أراد الكاتب، فالسرد في القص يعتمد على الإجادة في التعبير عن طبيعة الشخصيات وطبيعة الحدث وليس على الجمل الإنشائية.
لا بد من الإشارة إلى أن قصص المجموعة لا تقدم نفسها بذاتها، بل يقدمها كاتبها حسب قناعاته، معتمداً على ثقافته الخاصة، دون مراعاة الحبكة العامة للقصة. ورغم ذلك تميزت بعض القصص عن باقي القصص لتمتعها بعفوية لطيفة كقصة (الجدة) التي تتحدث عن علاقة مميزة بين الجدة وحفيدتها وقصة (وجع حلم) الذي تدور حول معتقل فلسطيني يحلم بالقدس وبيت جده. وهذا ما جعلنا نثق بأن (الخطيب) لديه الإمكانيات لكتابة قصص جيدة دائماً لو كتب بوعي رصين، وتبنى مشروعاً أدبياً جاداً، واطلع على المزيد من روائع الأدب القصصي.
العنوان: بيض الفال - المؤلف: إياس الخطيب - الناشر: مطبعة الخير بدمشق2011