هي دروبكِ المتطهرة بدم أبنائكِ، المسافرة بوعدٍ من نقاء إلى حيث يكون الخلود سرمدياً أبداً..
من حمص إلى اللاذقية سال الدمع وخفق الكبرياء بآن معاً، عند كلّ مفرق حكاية وفاء، وأمام مدخل كلّ قرية تفتّحت شقائق النعمان في عزّ الصيف، وعلى جنبات الطريق الدولية المذكورة اختصر الزمان قامته بتويجات زهرة نُثرت فوق جثامين الشهداء الذين قضوا في جسر الشغور وأبوا إلا أن يعمدوا الأرض التي احتضنت طفولتهم بما تبقّى من أشلائهم ليصدقوا عهدهم لها وهم الذين ما خانوا العهد يوماً!
كان المشهد مؤثراً للغاية، وكأن الحشر قبل أوانه قد حلّ، عشرات الآلاف خرجوا من قراهم ومدنهم ليستقبلوا الأبطال، لاتهمّ أسماؤهم ولا من أين هم، يكفي أنّهم رووا تراب هذا الوطن الغالي بدمائهم لتلقي عليهم كلّ الدنيا تحيتها وتنحني أمام عظمتهم بتواضع وخشوع.
فمنذ صباح الأربعاء الباكر (22/6/2011) خرج الآلاف من أبناء شعبنا الطيّب إلى أوتوستراد حمص طرطوس بعد أن عرفوا من خلال الأخبار أن قافلة أولى من شهداء قوى الأمن في إدلب ستمخر عباب الريح باتجاه محافظة اللاذقية ليقولوا لهم (حماة الديار عليكم سلام) وتكرر المشهد لاحقاً وفي كلّ مرّة يعبّر أبناء سورية أنّهم قلب واحد ويد واحدة مهما اسوّدت بعض الليالي ومهما نبت الشوك في بعض القلوب، فالوطن الحصين هو أن نذرف الدمع معاً وأن نغنّي للأمان سويةً، وأن نمرّغ وجوهنا بهذا التراب المقدّس صاغرين لطهارته، مؤمنين بقدرته على إنبات الوعد وتجديد الخضرة في مشاويره.
ما أروعكِ يا سورية وأنتِ تتسامقين في قلب المحنة كحورٍ يرفض الانحناء إلا ليقبّل الماء حاضن جذوره وباعث الحياة فيه.
وضعت طرف منديلها في فمّها، وبطرفه الآخر تحاول مسح دمعة لا تتوقف فسألتها لمَ البكاء فقالت: في هذه السيارة جثمان أخي، وفي تلك جثمان ابني، وفي الثالثة جثمان ابن عمّي وفي الرابعة جثمان ابن خالي..الخ وفي الحقيقة كلّهم أخوتي وكلّهم أبنائي وها هم يمضون ويرفضون الرحيل فعلى أي جانب سوى دمع الأسف على رحيلهم أميلُ؟
غفرانكَ اللهم، فقد شعرت بـ (زلزلة) في المكان حين مرّ مركبهم، خُيّل للكثيرين أن كسوفاً قد أصاب قرص الشمس، وأن النهار يطلع من جديد!
غفرانكَ اللهم، فقد رُفع السؤال والرجاء إليك: متى تخلّصنا من هذه الشرزمة المريضة التي تحاول إشاعة القتل والتخريب في سورية التي نحبّ ونعشق؟
الرحمة لشهداء سورية الأبرار الذين استعذبوا الموت لتحيا بلادهم عزيزةً كريمةً ولينعم الأطفال من بعدهم بضحكاتهم ومراجيحهم وتقليب صفحات كتبهم.
وأنتم يا أهل الشهداء، هؤلاء الأبطال ليسوا أولادكم لوحدكم، هم من عصارة يقيننا بسورية، هم من عباءة إيماننا بالله وبها، هم النشيد الذي نعليه قبل الآه وبعدها، بل أنّهم أبجدية جديدة سندرّسها لأبنائنا ونصدّرها لكلّ أحرار العالم.