ومتكامل المنافع الوطنية والمصالح, وفي حقبٍ استكبرت فيها قوىً على مصائر الآخرين, ومشاريعهم, وحق تقرير مصيرهم, واستبدلت السياسة, والمزاج المشترك وروحيات التكامل, بالخطاب التدخلي, والمتعدّي على حق الآخرين في اختيار أشكال نظمهم السياسية, واستراتيجياتهم الوطنية, وطغى منطق للِإملاء الإقليمي, أو الدولي لا يتوافق مع كرامة الأمم المعنية, ولا مع إرادتها المستقلة وسيادتها على أراضيها, وهويتها التي المطلوبة التي تميزها أو تتميّز بها.
وبناء عليه فقد تم التعارف العالمي على حقب التعاون, والتكامل, والتفاعل بأنها حقب التوازن الدولي المستخدم لمنطق العقل والحكمة في السياسة الدولية, وعلى حقب الاستكبار والغطرسة بأنها حقب الخلل المدمّر في التوازن الدولي الذي أدى في زمن من التاريخ إلى حروب إقليمية, ودولية أبادت معها حضارة البشر, ونسب التقدم المستحصل بما أعاد الوجود إلى عشرات السنين إلى الوراء, وخلّف الآلام والمآسي التي تتعطّل معها كل حياة بكرامة, أو بحريّة وعدل. ومن الطبيعي أن منطق الاستكبار له إيديولوجيته, كما لمنطق التفاعل والتوازن العالمي إيديولوجيته, ففي الحالة الأولى تفترض إيديولوجية الخطاب الحربي والتدخل بالقوة في حياة أمم الأرض ودولها وتغيير النظم السياسية بناء على ذلك أن يكون الغطاء الذي يحقُّ فيه التدخل هو حق الإنسان المزعوم ضياعه, وحرية الإنسان المزعوم فقدانها, والديمقراطية المفقودة, أو أن تكون الحجج بالقوة النامية في هذه الدولة أو تلك وما تمثله من خطر على المجال الحيوي للآخر القوي المستكبر, والممسك بالقرار العالمي عبر قوته, لا عبر ديمقراطيته. أما في الحالة الثانية تفترض إيديولوجيا التوازن الدولي أن يكون في العلاقات الدولية منطق معترف به للشعوب بحق تقرير مصيرها, واختيار مشاريعها الوطنية, وبناء حياتها من الداخل بالتفاعل مع الخارج, وتصان بهذا المسعى حقوق الإنسان والأوطان في حريةٍ منصوص عليها في القانون الدولي, ومرصودة شروطها في مواثيق الأمم المعمول فيها. وما دخلت البشرية في حقبة من الاستكبار العالمي إلا واندحرت فيها القيم الإنسانية العليا وتم تعميم الظلم, والاستبداد الدوليين, أما حين تمرُّ البشرية في حقبة التوازن تبرز هذه القيم الإنسانية العليا إلى سطح العلاقات الدولية لتتوافر معها سياسات العدل والحرية, والاعتراف بحق الآخر بالحياة على طريقته, وكما يختار. ومعلوم أننا نحن هنا – في المنطقة العربية من هذا العالم – لم نُترك لنختار أشكال نظمنا السياسية, والاجتماعية ولم نُترك لتحقيق مشروعنا القومي بالدولة الأمة, والأمة الدولة, لأن إسرائيل الكبرى لا بد أن تقوم, وفي حالة إذا كنا تُركنا لتحقيق الأمة الدولة لن تقوم, وإن قامت سوف تقوم ضعيفة ولا تقوى على البقاء. وعلى هذا المقتضى بَنَتْ قوى الاستكبار العالمي سياساتها على إدامة ضعفنا نحن العرب , وتشتتنا, وتقسيمنا وقد هيأت لهذا المطلب الأشخاص الذين يتكفّلون بتمزيق العروبة, والأفكار الإيديولوجية اللازمة لهذا التمزيق, ولو قمنا بمراجعةٍ للتاريخ القديم والحديث والمعاصر والراهن للعرب سنقف على هذا الاستهداف بالكثير من الشواهد.
وبالمناسبة لم يكن في تاريخ الأمم أن أشخاصاً يهون عليهم استضعاف بلادهم, والإسهام باحتلالها, وتمزيقها كما هو موجود لدينا نحن العرب عبر تاريخنا. وكلما دخلت البشرية في حقبة من فقدان التوازن الدولي نكون نحن أكثر أمم الأرض تأثراً بها, وخسارة معها. وفي كل عقل برهاني- لو رجعنا إليه - سنجد أنفسنا دوماً في إطار خدمة مشاريع الآخر, ولم ندخل بعد في أي حقبة نفرض فيها مشاريعنا الوطنية أو القومية.
ومنذ انهيار النظام الدولي المتوازن – في ثنائيته – عام 1991 من القرن الماضي كانت إسرائيل والغرب المتصهين هما المستفيدان من خلل التوازن الدولي, وكم شُنَّّتْ علينا الحروب, واحتُل من بلادنا! .. واليوم حين تبدأ من جنيف - باجتماع مجموعة العمل من أجل حلّ الأزمة السورية - بوادر التوازن الدولي الجديدة, وتفرض القوى الصاعدة قرارات العدل المطلوبة, وتتراجع مكرهةً قوى التغوّل, والقطب الأحادي الذي اهترأ بأقصر الزمن يستعيد العالم صورته المطلوبة, ويُفتضح أمر الإيديولوجيا التي تحتلُّ العرب باسم الحرية لهم, وتقتلهم باسم تأمين الحياة لهم, وتدمّر الدولة الوطنية باسم توفير المزيد من بنائها بحرية, وتحضّرُ أسباب الحرب الأهلية باسم الحرص على الوحدة الاجتماعية للشعب.
نعم في اجتماع جنيف عاد إلى المشهد الدولي منطق التوازن المفقود, وأتت القرارات مراعية مصالح الجميع حيث تم التوافق على ضرورة احترام جميع الأطراف المعنية لخطة عنان, ووقف عسكرة الأزمة, والحل فقط بطريقة سياسية, وعبر الحوار, والمفاوضات, ومنع التدخّل العسكري الدولي كظاهرة استخدمت حتى تاريخه, ودمّرت الدول المعنية ولم تجلب لها الحرية.
إذاً؛ إن الحل في أي شكل، أو بنهاية أي مطاف هو سوري وحسب, وأن المجموعات المسلّحة أصبح معترفاً بوجوها بعد أن تم تجاهل وجودها طيلة ما مضى من زمن الأزمة, فالاجتماع في جنيف يمثل عتبة في دخول حقبة جديدة للتوازن الدولي عبر فرض المنطق المطلوب للعلاقات الدولية, بأن تترك الدول تحل مشكلاتها بإرادتها الوطنية الخالصة, ومنع ظاهرة التدخل وتقرير مصير الشعوب من خارج حدود دولها. نعم لقد دخلنا حقبة التوازن التي خسرتها البشرية منذ عام 1991, وهاهي اليوم تستعيدها في جنيف بوثيقة تعبّر عن منطق التوازن الدولي المطلوب.