تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


لماذا نصوّر الرقابة قبحاً أقبحَ من القبح ؟

آراء
الخميس 5-7-2012
   د.جهاد طاهر بكفلوني

مفهوم الرقابة في الذهن العربيّ مفهوم ذو مدلول سيئ ، والمفكّر العربيّ يرى وجه الرقابة كالحاً مكفهراً متى سرّح بصره في ذلك الوجه ، وقلّما يتحدّث الشاعر أو الكاتب أو الفنّان في عالمنا العربيّ عن عمليّة الإبداع دون أن يخصّص حيّزاً لا بأس به من حديثه للهجوم على الرقابة التي تحول دون انطلاق جواد إبداعه في مضمار فسيح ينشط فيه عقال تجديده بعد رميه القيود كلّها جانباً .

تقرأ مقالة لصحفيّ مشهور في دنيانا فتراه يحوم حول الفكرة حوماً وكأنه يخشى اقتحام عالمها الداخليّ ، فيؤثّر ذلك على جودة المادة التي يقدّمها ، وإذا سألته عن السبب تذرّع بالرقابة التي يصوّرها سجناً ضيّقاً يكاد يحصي عليه كلّ نفَسِ من أنفاسه ؛ إن لم يحلْ دون تنفّسه بصورة كليّةٍ .‏‏

إنّ العودة إلى المعنى اللغويّ للرقابة تشي بامتلاكها وجهاً مليحاً يستنكر رائيه تصويره على تلك الدرجة من القبح، ويتألم لإخضاعه لذلك القدْر من التشويه .‏‏

في القرآن الكريم ورد قوله تعالى في سورة ( ق) : (( إذ يتلقّى المتلقّيان عن اليمين وعن الشمال قعيد * ما يلفظ من قولٍ إلاّ لديه رقيب عتيد )).‏‏

فمعنى الآيتين هنا يشير إلى وجود ملكين كريمين يراقبان الإنسان ، محصيين عليه حسناته وسيّئاته ، وهذه الرقابة – كما أراها – ذات تأثير إيجابيّ فهي تذكّر المخطئ بالعودة إلى جادّة الصّواب ، فيرعوي ويثوب إلى رشده ثمّ تأتي النتيجة الإيجابيّة : ((إنّ الحسناتِ يذهبنَ السيّئاتِ)).‏‏

وفي الحديث الشريف يقول النبيّ العربيّ محمّد عليه الصلاة والسلام : ((الإحسان أن تعبد الله كأنّك تراه ، فإن لم تكنْ تراه فإنه يراك )).‏‏

وشعور الإنسان بأنه مراقبٌ من قبلِ خالقه يدفعه للالتزام بالطريق القويم الذي يرضي خالقه تعالى .‏‏

وها هو جميل بثينة يحصد نتاج الرقابة حبّاً عذريّاً نقيّاً دخل به التاريخ من بابه الواسع فهو القائل:‏‏

وإنّي لأستحييكِ حتّى كأنّما عليّ بظهْرِ الغيبِ منكِ رقيبُ‏‏

واستشعاره مهابة وجلال هذا الرقيب جعله صادقاً في حبّه راضياً بحبّ عفيف لم تشبّه شائبة من شهوة أو إثم ، وإلى هذا الحبّ أشار جميل مفاخراً :‏‏

وإنّي لأرضى من بثينة بالذي لو ابصرَهُ الواشي لقرّتْ بلابلُهْ‏‏

لكنّنا ظللنا نتعامل مع الرقابة تعاملَنا مع عدوٍّ مبينٍ يترصّد هفواتنا وهناتِنا وأخطاءَنا ، يجمّعها لنا ويكدّسها حتّى إذا بلغتْ ذلك الكمّ الكبيرَ سارع إلى تقديمها دليلَ إدانةٍ وحجّةً علينا ظنّاً منه أنّ ذلك الفعل سيكون كفيلاً بإيقاع العقاب الشديد بنا من قبل أولئك الذين يخوّلهم القانون إنزال العقاب بنا .‏‏

استمعْ مثلاً إلى سيف الدولة يشكو سطوة الرقيب الذي نغّص عليه استمتاعه بحبّ الحبيبة :‏‏

راقبتني فيكِ العيونُ فأشــــــــــفقتُ ولم أخلُ قطُّ من إشفاقِ‏‏

فتمنّيتُ أن تكوني بعيداً والذي بيننا من الودِّ باقِ‏‏

وبعده خاف سبط بن التعاويذي البوح بمكنون فؤاده خشية تأثير الرقيب وجعل الرقيب والواشي في نسقٍ واحدٍ :‏‏

قد كنتُ أكتمُ ما تكنُّ جوانحي حذرَ الوشاةِ عليكِ والرّقباءِ‏‏

حتّى أعارتني المدامةُ نشوةً فوشتْ بحبّكِ نشوةُ الصهباءِ‏‏

وفي الوقت نفسه آمن عدد جيّد من مبدعينا أنّ الرقيب صناعة داخليّة يصنعها الإنسان من عدمٍ ثمّ يفترض أنها أصبحتْ كائناً حيّاً ينمو في داخله يوماً بعد يوم وتنمو معه سلطته التي تصبح شكلاً من أشكال التسلّط وربّما مع مرور الوقت تصبح ضرباً من ضروب القمع الفكريّ أو الإرهاب الذهنيّ ، فترى هذا المبدع وقد انطفأ مصباحاً منكفئاً على نفسه مستسلماً لهواجسه وأوهامه وما أكثرَها !.‏‏

لذلك مرّ هؤلاء المبدعون بالرقابة مرور الكرام غير مكترثين بها وإذا خاطبتهم قالوا سلاماً ، ولعلّ من أبرز ممثّليهم الشاعر ( دعبل بن علي الخزاعيّ ) صاحب القول المأثور: (( إنني أحمل خشبتي منذ أربعين عاماً ولا أجد من يصلبني عليها )).‏‏

مرّة أخرى لا بدّ من التشديد على أنّ الرقابة ذات مفعول ٍ إيجابيّ إذا نبّهتنا إلى الخلل وكانتْ جرس إنذار يحول دون سقوطنا في حفرته ، لكنّها تنقلب لفحَ عذابٍ إذا تخيّلنا طيفها يلاحقنا حيثما اتّجهنا ملاحقة تصبح قيداً ثقيلاً نرسف فيه إلى أجلٍ غير مسمّىً .‏‏

الرقابة ذات وجه جميل إذا نبّهتنا لوجود خطأ ما فسارعْنا لتجنّب الوقوع فيه ، وهي في الأحوال كلّها ليست قبحاً خالصاً فلماذا نصوّرها قبحاً أقبح من القبح ؟!.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية