إنما هم نماذج خرجت عن دائرة الانتماء الوطني والقومي وباعت نفسها للشيطان بثمن بخس وفي السوق الموازية حيث الجشع والارتهان وحيث المأساة تكبر والعلة تنخر وكل شيء يتحرك نحو المجهول.. الله سبحانه وتعالى قدم لنا القاعدة والقانون إذ قال (لا يغير الله ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم), أرأيتم حيثيات القاعدة يجريها الخالق على ذاته ثم يربط بين حركة العباد واستجابته حينما تكون الحركة ذات منطق وذات قيم وذات هدف.
المشكلة الكبرى الآن هي في هذه الآلية العربية والتي يتوضع في أساسها ابتعاد العرب عن ذاتهم وتجاهل العرب لقضاياهم وإقفال الملفات الساخنة ثم اللجوء إلى الهامش والبحث عبر الهذيان عن الشكلي والعابر وعن الثانوي والصغير, وبنظرة مبسطة نكتشف في هذه المرحلة بصورة جلية وضاغطة أن السياسات العربية تخلت عن قواعدها وضرورتها, وأن النظام السياسي العربي لم يعد يقيم وزناً لدور العرب في هذا الزمن, لحصتهم في استحقاقات هذا العصر والصورة هنا مرعبة حيث يدفع العرب من الدم والمال ما لا يدفعه الآخرون, والأهداف الكبرى على الساحة العالمية كلها تتجه نحو المنطقة العربية,العرب لديهم الثروة وفي مقدمتها النفط والغاز, والموقع العربي ذو أهمية وأبعاد استراتيجية والممرات إلى الداخل العربي ومنه إلى مرافىء العالم وموانئه وقنواته ونقاط العبور البرية والبحرية إلى كل قارات العالم.
وفي التاريخ العربي المستمر كل عناصر التحدي والمواجهة مع قوى الشر, ثم إن الملايين العربية تقدم صفوة الخبرة في كل ميدان في العالم في حين ما زالت هذه الملايين في نظر الآخرين مجرد قوة بشرية مستهلكة تملك المال والجوع ويدفعها النهم من استهلاك لآخر حتى لقد صار العالم يبني معاييره الاقتصادية على درجة استيعاب النهم الاستهلاكي العربي لمنتجاته ذات الطبيعة المؤذية برغم ما يرافقها من أسعار مرتفعة وإغراءات عفنة.
وفي عمق الوطن العربي هناك الكيان الصهيوني والذي يعني فيما يعنيه أنه أمن الغرب وأمانه ووسيلة كل المستعمرين للإطباق على تاريخ الأمة وتمزيق وجودها وتحويل كتلها إلى مجرد قطع متناثرة متنافرة لا تصلح إلا للسيطرة من الخارج والاقتتال المفتعل من الداخل, إنها صورة محرجة حقاً لكنها قائمة على أرض الواقع ومن هنا نجد المدخل إلى الدهشة وحالة الاستغراب, كل مصالح العالم عندنا وكل أطماع الاحتكارات فينا وكل أنواع الجرائم تمارس ضدنا من التجزئة إلى قيام الكيان الصهيوني إلى التخلف والأمية إلى الجوع والمرض والفاقة ومع ذلك لا نجد ما يوازي هذه التحديات ولو في الحد الأدنى من الاستجابة السياسية العربية وهذا هو الطرف الآخر في المعادلة المذهلة.
العرب يتخلون عن دورهم في ذاتهم وحصتهم في حركة العالم وإسهامهم في تشكيل إيقاع حضارتهم المعاصرة, باختصار لا يعتبرون أنفسهم فريقاً مهماً ولا مجموعة تمتلك قابلية أن تفرض وزنها ووجودها كفريق من جملة أفرقاء العالم الكثر, كان الكثيرون يتوقعون أن العرب بحكم نسق العوامل الذي هم فيه سوف يكونون في حالة البحث الدائم في كل ما يحيط بهم وفي كل ما هو مطلوب منهم كنزعة أولية في الدفاع عن النفس أو في استخلاص المواقف من أنياب الشيطان أو في توصيل رسالة للآخر تؤكد له أن الأمة العربية لم تمت وأنها ما زالت على قيد الحياة.
كان ثمة حد أدنى يفترضه القانون الموضوعي والأزلي من خلال العلاقة ما بين المؤثر والاستجابة والفعل ورد الفعل لكن هذه الدرجة أعني الحد الأدنى تحولت إلى بؤرة لحراك سلبي وموقع لصراع مفتعل والنتائج جميعها تتجه نحو إلغاء هذه الحالة الأولية, وتبديد مقوماتها حتى لا تتشكل ولا تنمو ولا تتكاثر وهذا هو واحد من المواضع الخطرة التي يشذ فيها الواقع السياسي العربي عن كل سياسات العالم وأنشطة مجموعاته ومؤتمراته اللقائية والبحثية, وها هو العالم مكشوف أمامنا. صحيح أنه مفعم بالاختراقات ومحجوز في كثير من النسب لمصلحة الإرادات الاستعمارية لكنه لا يتنازل عن ذاته, إنه يتألم ويصرخ, يتعايش مع الواقع وتجتمع قياداته وتوضع جداول أعمال ذات بنود حيوية متصلة مباشرة بحال هذا الإقليم أو ذاك وبأولويات هذه القارة أو تلك وبمصالح هذا التجمع السياسي أو ذاك.
في السياسة لا أحد ينهزم عادة وحينما يأتي من يقر بالهزيمة السياسية أو يتبناها فهو موقع عميل باع واشترى منذ زمن طويل ولكننا لم نشعر به إلا في اللحظة التي أفصح فيها عن موقفه بعد أن انهار السد وجاء الطوفان, إن الأمم عند مصيرها وحينما تقع في الفاصلة الخطرة ما بين الفناء والحياة لا تسأل عادة عن مسوغات نفعية ولا تتشبث بجزئيات مستهلكة, إن الأمة الحية ونحن منها تستدرك واقعها وتستلهم درجة الخطر فيه وتستنفر تاريخها وتستدرج لإيقاع حركتها كل مقومات مشروعية التحرك السياسي وكل العناصر المتاحة للتوحد عند الأساسيات وترك التفاصيل والعلامات الفارقة للزمن الآتي, وأكاد أعلن بأن المسألة هنا هي في مستوى الغريزة السياسية, وقد حكمت هذه الفكرة آماداً طويلة من تاريخنا وأقاليم كثيرة من وطننا الكبير.
كان الإحساس بالخطر هو مسوغاً كافياً كاف لكي يتفوق أي إقليم عربي على ذاته ويؤجل جدول حساباته الضيقة إلى ما بعد موسم الذات العربية الكبرى, وكان الآخرون الغرباء يخشون من هذه النزعة العربية حيث يستفيق العرب في لحظة الخطر على ذاتهم ويدفعون الخطر الأكبر بالخطر الأصغر ويتسامون فوق الحساسيات والمواقف الذاتية والحكايات الملفقة, أي إن الحال السياسي العربي على مر التاريخ كان ذا منطق والشواهد لا تترك فرصة لمتخاذل أو متشكك في هذه النزعة المحورية السياسية في كل مراحل التاريخ العربي قديمه وحديثه.
الآن هجمت العواصف الغربية كالتتار, كان هدفها واضحاً هو استئصال شأفة ذاك الضمير العربي المتكون بامتياز وقد غذته منابع الحضارات ومصادر الديانات السماوية وبواعث الفكر السائد وضرورات التكامل مع الحياة ودرء الخطر بالمقام الأول بالحد الأدنى, ودارت الأيام, ومرت الأيام وصرنا كعرب نبحث عن بارقة أمل توحدنا, وجاءت السنوات الأخيرة مع انهيار المنظمومة الشيوعية وغزو العراق وتمادي الجريمة الصهيونية في فلسطين واختلاق الفتنة في لبنان والمضي بالاستهتار بعيداً إلى السودان والصومال وموريتانيا وتشاد, عندها قلنا ببساطة هذا زمن يتطلب أول ما يتطلب أن تكون السياسات العربية في منطق التفاعل الدائم وأن تكون القمم العربية الدورية والاستثنائية هي الموئل الذي لا يختلف عليه ولا يمتلك فريق أن يعبث به أو يخضعه للغايات الدفينة والمرامي الملتطية وراء الجثث والقهر والتنكيل.
لم تكن الحالة مذهلة بالنسبة للإنسان العربي, كانت أكثر إذهالاً للقوى الغربية نفسها, للكيان الصهيوني المعادي, ومن يصدق أن يكون العرب مستهدفين إلى هذه الدرجة مخترقين إلى هذه الحدود مثخنين بالموت والجراح والتسيب, والموعد المر يأتي جهاراً نهاراً لا يخجل ولا يتوارى من سوء ما أراد وفعل ومع ذلك يتوه العرب في أقدارهم الصغيرة ذات المنشأ ينؤون عن ذاتهم يمعنون في الصد وكأنهم ليسوا أمة واحدة وكأنهم لا ينتسبون لهذا العصر حيث القوى كلها تجتمع على مستوى القمة تستفيض بطرح قضاياها ومآسيها, وتجري الحوار وتتصارع بالأفكار, وقد تصل إلى نتيجة وقد لا تصل, لكن كل تجمعات البشر في العالم المعاصر لا تتخلى عن ذممها ولا تتجاوز قممها, إن موعد القمة العربية العادية في دمشق قريب في حساب الزمن, والخطر داهم وسورية تفتح قلبها وذراعيها, فهل يفعلها العرب قبل أن يدخلوا في عالم الفناء السياسي المجاني.