وفي مناسبات عديدة يعلن مديرو هذه المصارف عن حجم الأموال التي يتربعون فوقها ويفاخرون بما لديهم من المليارات المكدسة التي تبحث عن توظيف حقيقي بعيداً عن الروتين والقوانين التي تكبل عملها منذ سنوات طويلة.
لكن هل يتناسب ريع هذه الأرصدة ( الفوائد) فعلاً مع حجمها الكبير, وهل يصح أن تبقى شبه مجمدة دون تحمل أي مسؤولية في توظيفها واستثمارها في مشاريع اقتصادية وتنموية وخدمية وتحقيق الأرباح والعوائد بما ينعكس فائدة ونمواً على المصارف وعلى الاقتصاد الوطني والمساهمة في خلق فرص عمل جديدة, وتنمية هذه الأموال شبه المجمدة والتي تصاب بالتآكل نتيجة التضخم وارتفاع الأسعار لمختلف السلع?!
مطارح الاستثمار في بلدنا كثيرة ومتنوعة ومتعددة المجالات التي ثبتت جدواها الاقتصادية ونحن بحاجة إلى وجودها وخاصة الاستثمار في مجالات الطاقة وصناعة الحديد والإسمنت والسيارات ومستلزمات الري الحديث ومواد البناء والطاقة الشمسية والمشاريع السكنية وغيرها من الاستثمارات والقائمة طويلة وحبذا لو نقتدي بالمصارف العربية والعالمية في هذا المجال ونقوم بتوظيف الأموال شبه المجمدة وتشغيلها وذلك أسوة بمصارف تمتلك شركات كبيرة مشهورة تحقق المليارات من الأرباح كما تمتلك مشافياً وفنادق وشركات سياحية وشركات نقل وخدمات حتى أصبحنا لا نعرف هل المصرف هو الأم أم تلك الشركات العملاقة هي الأصل, نحن نطرح قضية على غاية من الأهمية وهي قضية الاستثمار الذي ننظم له مؤتمرات وندوات وملتقيات وندعو المستثمرين العرب والأجانب والسوريين في المهاجر لاستثمار أموالهم لدينا وننسى أن لدينا مصارف وطنية محلية ملاءتها كبيرة ولديها الأموال الطائلة ولا ندعوها إلى دخول سوق الاستثمار التي توفرت لها كل المقومات والتسهيلات والقوانين والأنظمة التي تساعد على إقامة استثمارات جديدة ذات جدوى اقتصادية.
والحديث هنا سيقتصر على جانب استثماري واحد وهو الاستثمار في مجال السكن وتشييد المساكن المناسبة للشريحة الواسعة من ذوي الدخل المحدود, ففي سورية ومنذ سنوات طويلة نعاني من مشكلة مزمنة على صعيد تأمين السكن وذلك رغم كل أشكال وتعدد وتنوع الجهات التي تصدت لهذه المشكلة ابتداء من القطاع الخاص وقطاع التعاون السكني ( الجمعيات التعاونية السكنية) والسكن العسكري والسكن العمالي والسكن الادخاري وآخرها السكن الشبابي كل هذه الجهات لم تتمكن حتى الآن من حل الأزمة بشكل جذري رغم مساهمتها المهمة في توفير السكن لألوف المكتتبين..
إذن نحن بحاجة إلى جهة متخصصة في مجال الإسكان تتولى تشييد المساكن وتقوم ببيعها للراغبين بالتقسيط وعلى دفعات مريحة وآجال طويلة مقابل حصولها على فوائد وأرباح معقولة تؤمن ريوعاً أفضل وجهات عمل أوسع وتوفر فرص عمل للألوف من العاطلين عن العمل.
وخير من يتصدى لهذه المهمة مصرف حكومي يخصص بهذا الجانب وتخصص له الأموال الكافية, ويصدر القانون الذي يشرع عمله ونظامه وطريقة عمله, وتقدم له التسهيلات ويعطى الصلاحية والمرونة التي تتيح له الحصول على الأرض ومواد البناء وإقامة البنى التحتية والحصول على التراخيص الإدارية وإجراء الدراسات والمخططات التنظيمية وإقامة الضواحي السكنية التي يمكن أن تستوعب أكبر عدد ممكن من السكان المحتاجين إلى سكن ضروري.
وما دامت الأموال متوفرة لدى المصارف العامة فيمكن الاستفادة من هذه الأموال ومن الأرصدة لدى مصرف أو أكثر وإقامة ما يشبه الاستثمار العقاري المضمون, والتي تكفله الدولة وتوفر له كل عوامل النجاح والاستمرارية والثقة المتبادلة ما بين المصرف المفترض والزبون الذي سيستفيد من السكن على أن يكون المسكن هو الضمانة التي تكفل للمصرف حقه في حال تخلف المكتتب عن دفع ما يستحق من أموال.
صحيح أن هذا الاقتراح يأتي بعد أن شهدت أسواق العقارات ارتفاعا في الاسعار لم تصلها من قبل وتحولت إلى بورصة غير معلنة وظفت فيها أموال طائلة وتحولت إلى ميدان للمضاربات والسمسرة وجني الأرباح الطائلة وكأن جامعي الأموال قد تحولوا إلى هذا المجال بعدما حاصرتهم القوانين وباتوا غير موثوقين من قبل من وضعوا ثقتهم بهم وأملوا بهم خيراً.
تشير الأرقام إلى أن لدينا في سورية أكثر من 500 ألف مسكن شاغر تنتظر زبائن ليشغلوها إما تملكاً أو إيجاراً ويقولون إنه ليس لدينا أزمة سكن بدليل وجود هذا العدد الكبير من المساكن الشاغرة ولكن لدينا أزمة إسكان أي أن هناك شريحة من الناس لا تشكو من أزمة إسكان بينما الشريحة الأكبر هي التي تشكو من أزمة إسكان ولكن ليس ذلك النوع من المساكن الشاغرة.
بل التي تبحث عنها هي مساكن عادية وشعبية مناسبة من حيث التكلفة والشروط الأخرى كالحصول عليها بطريقة التقسيط المريح ولآجال طويلة.
وهذا النوع من المساكن لا تتصدى لتشييدها إلا جهات محددة كالتعاون السكني والسكن العسكري والعمالي وسكن الشباب وذكرنا أن هذه الجهات لا تزال عاجزة عن تأمين السكن الكافي رغم ما حققته من إنجازات على هذا الصعيد.
أما شركات الاستثمار العقاري فهمها الأول والأخير هو تحقيق الربح كيف لا وهي شركات استثمار وليست جهة تعاونية أو حكومية لا يهمها الربح بل هي بالأساس قامت من أجل توظيف أموالها واستثمارها في مجالات رابحة وبفترة زمنية ليست طويلة وهذا من حقها ولا نستطيع أن نعّول عليها في حل أزمة الإسكان رغم أنها يمكن أن توفر السكن لشريح معينة لا تشكو من أزمة إسكان بل قد يكون هذا الإسكان للاستثمار والمتاجرة وتحقيق الربح وهو كما قلنا أي أن المسكن لا يتناسب مع دخول الشريحة الواسعة من الناس التي تبحث عن سكن شعبي مناسب وعلى هذا فإن شركات الاستثمار العقاري لا تشكل حلا لأزمة الاسكان بل يجب البحث عن أطراف أخرى يتم عن طريقها توفير السكن المناسب للشريحة الكبرى من الناس والوصول إلى مرحلة يصبح فيها الحصول على السكن من الأمور العادية وإلا بقينا نجتر الأزمات ونقوم بتفريخها وتقديم المبررات والحجج دونما التوصل إلى حل.
هناك توجهات حكومية لمعالجة قضايا المخالفات والسكن العشوائي, فقد ترأس المهندس محمد ناجي عطري رئيس مجلس الوزراء مؤخرا اجتماعا من أجل معالجة قضايا المخالفات والسكن العشوائي جرى خلاله بحث مشروع تطوير وتنظيم بعض مناطق مدينة دمشق ومحيطها الحيوي ويهدف المشروع المقترح إلى إعادة تنظيم هذه المناطق من النواحي العمرانية والجمالية وتطوير مرافقها وبناها التحتية وخدماتها الاقتصادية والاجتماعية والثقافية وذلك شريطة توفير البدائل والسكن التبادلي لشاغلي هذه المناطق وتحديدها والإعلان عنها بشكل مسبق قبل المباشرة بتنفيذ المشروع المقترح.
وقد تقرر في الاجتماع اعتماد ست مناطق للتطوير وتكليف المؤسسة العامة للاسكان بالإشراف على تنفيذ هذا المشروع الحيوي واتخاذ الإجراءات والترتيبات الفنية والإدارية اللازمة وذلك بالتنسيق مع محافظتي دمشق وريفها والجهات العامة ذات العلاقة وعرض خطة عملها ومقترحاتها التنظيمية والاجتماعية لاستكمال مناقشاتها واتخاذ القرارات اللازمة لها في اجتماعات قادمة على أن يتم ذلك خلال مدة أربعة أشهر.
وإذا ما توفرت الامكانات لهكذا مشروع فإنه بداية صحيحة لتأهيل وتطوير مناطق السكن العشوائي وستكون البداية من دمشق وريفها وهي التي تضم أكبر المناطق وأكثرها سكانا على صعيد السكن العشوائي في سورية.
إذاً هناك مجال للعمل والاستثمار العقاري وتوظيف الأموال في هذا المجال فلماذا لا نستفيد من إمكانات مؤسسة الاسكان الفنية وخبراتها ومن كوادرها ومن الأموال لدى المصارف العامة والتعاون بين الطرفين لتطوير مناطق السكن العشوائي وتأهيلها وإقامة المساكن بشروط صحية وفنية وتوفير البنى التحتية والخدمات والمرافق الاقتصادية والاجتماعية مع الأخذ بعين الاعتبار مصلحة السكان الحاليين وانصافهم وتأمين السكن البديل في نفس المنطقة..