وبإمكان كل كاتب وكل أديب أن يقول الشيء نفسه لأي عمل من أعماله وخاصة تلك الأعمال النابعة من أحاسيس واقعية فإنها ومنذ لحظة ولادتها تقطع كل الصلات المعنوية بمن أخرجها للنور وتحدد نصيبها من الشهرة بنفسها بالمقابل فإنه طبيعي وواقعي جدا أن يصبح الكاتب غريبا عن عمله بعد أن يفارقه فأنا كنت قد نسيت تماما ما كتبته في (غريب) حيث إنني عندما تعرض للتهجم راودتني الشكوك في صحته فعدت إليه أقرؤه من جديد).
هذا مما يذكر الأديب التركي يعقوب قدري قره عثمان أوغلو في مقدمة الطبعة الثانية لروايته هذه في حين تمت ترجمة الرواية إلى العربية عن الطبعة التركية الخامسة عشرة.
يعقوب قدري سليل أسرة قره عثمان أوغلو التي حكمت منذ نهايات القرن السابع عشر فيما تعرف اليوم بولاية صاروخان.
وهو ابن قدري بيك الذي عاش في قصر ابراهيم باشا بمصر وتزوج هناك من اقبال خانم.
ولد يعقوب في القاهرة 1889 وإثر وفاة إبراهيم باشا جاء يعقوب مع أسرته إلى مانيسا وهو في السادسة من عمره حيث تابع دراسته في إزمير ولاحقا استقر في استانبول وانتسب يعقوب إلى مدرسة الحقوق لكنه تركها وهو في الصف الثالث دون أن يكمل الدراسة وفي هذه الفترة كتب مسرحيته المؤلفة من فصل واحد التي ظهر فيها تأثره بإبسن وفي عام 1912 اكتشف أنه مصاب بالسل حيث سافرا إلى سويسرا للعلاج لمدة ثلاث سنوات.
تأثر بالأديب يحيى كمال وتصدى للدفاع عن مفهوم الأدب الحديث مستنداً إلى مصادر يونانية ولاتينية لكنه من ناحية ثانية كان متأثراً بالروحانيات الشرقية كان يميل إلى التصوف فدفعته ميوله هذه إلى (التكية البكداشية) وكتب رواية مستفيداً من مشاهداته.
في عام 1913 أخرج كتابه القصصي الأول لكن حرب البلقان أولاً ثم الحرب العالمية الأولى والدمار الذي حل مع هذه الحروب أدى إلى تغيير لدى يعقوب قدري فراح يبتعد رويداً رويداً عن فكرته القائلة:إن العمل الأدبي (عمل شخصي محترم) فنراه لاحقاً صحفيا يتابع الأحداث اليومية ويؤيد حرب الاستقلال في مقالاته التي جمعها فيما بعد في مجموعة خاصة.
بين 1923و1931 انتخب نائباً في البرلمان عن منطقة ماردين ثم منطقة مانيسا وكان زواجه خلال تلك الفترة أيضا اذ تزوج لمعان خانم ابنة المتصرف أسعف بيك وشقيقة الأديب برهان أسعف بلجا وبعدها بقليل سافر إلى سويسرا للعلاج للمرة الثانية وحين عاد نشر روايته هذه (غريب) التي ايقظت مشاعر الأسى وفتحت المجال لمناقشات واسعة في المجتمع التركي.
ورواية (غريب) كما يؤكد هو ليست رواية شخصية (غريب) صرخة ألم تقطع نياط القلب صادرة عن ضمير وأحاسيس روح محمومة وقفت فجأة وجهاً لوجه أمام واقع مرير مخيف يخاطب البطل أهالي القرية التي وجد نفسه فيها بين الفلاحين( وبعد قليل عندما تذهبون لجمع حبات القمح والشعير المحروقة من بين رماد الحرائق وتطحنونها بين حجرين لتأكلوها سنتوقف نحن في منطقة بهيجة ريانة على الطريق وبأطراف شوكاتنا البراقة المشعة أكثر من شعاع الشمس سنأكل اللحوم المطبوخة والمعجنات الباردة والفواكه الطازجة.
يجد القارئ نفسه أمام بطل يعترف لنفسه قبل أن يبلغ الخامسة والثلاثين بأن كل شيء قد انتهى وكل شيء قد تم وإن مشاعر الحب والإرادة والأمل والطموح قد اختفت إلى غير رجعة لهذا يقبل دعوة صديقه إلى قرية أناضولية لتتوضح له أشياء وأشياء بين مخلوقات ألفها.
وأعجبه سلامة دخائلها ( الحمير والجواميس والماعز والدجاج) البطل الذي فقد ذراعه في الحرب يذهب أخيرا إلى مكان لم ينتبه به أحد إلى أنه أبتر وماكان مذلة له في استنبول هو شرفه ومفخرته في تلك القرية.
في عام 1934 عين يعقوب قدري سفيراً في طهران ثم سفيراً في براغ ثم في لاهاي ثم في برن حيث بقي فيها إلى أن أحيل على التقاعد حيث كتب مذكراته وكانت ثمرة لتلك السنين.
عاد إلى الوطن عام 1955 بعد إحالته على التقاعد واستمر يكتب لمختلف المجلات والجرائد وفي عام 1961 انتخب مرة أخرى نائبا في البرلمان عن منطقة مانيسا ثم شغل منصب رئيس تحرير جريدة وفي عام 1965 اعتزل العمل السياسي.
وكان آخر منصب شغله رئاسة مجلس إدارة وكالة الأناضول للأنباء.
يقول في روايته:( وا أسفاه لأولئك الذين لا يعرفون كيف يحبونك أيها الوطن المثقل بالهموم وا أسفاه لأولئك الذين يخافون من حبك ومن إغراق انفسهم في مأساتك الصامتة, أي خزائن صبر ومقاومة بلا حدود هي حجارتك وأتربتك! على صدرك إما أن يصل الإنسان إلى شجاعة أسطورية أو يصل إلى أعلى مراتب التصوف والذوبان والتلاشي).
رواية: غريب. - تأليف: يعقوب قدري قره عثمان أوغلو. - ترجمة: فاروق مصطفى صادرة عن وزارة الثقافة في .282