فإذ بعنوان إحدى قصائده ( المذكور أعلاه ), يطوح بي إلى عالم آخر, أعتقد جازمة أنه لم يخطر ببال الشاعر على الإطلاق لأنه ككل الشعراء الكبار, أراد تمرير فلسفته الإنسانية العميقة التي تختزل حياتنا الغرائبية, المشحونة بالفظاظة والقسوة والتشوه الوجداني ما يجعل الشاعر - الشاعر, ينكفئ على نفسه باحثاً عن الجمال والتوازن فيها, ولعله لم يتوقع قط, أن يكون هذا العنوان اختصاراً عبقرياً لنوع من البشر نسميهم بتسرع الأنانيين وهم في الواقع نرجسيون, والنرجسية هي أعظم عيوب البشر وأشدها استعصاء على الشفاء, لأن صاحبها يفترض الكمال في ذاته, ومركزية الشمس في فضائله, والتنزه عن الخطأ في فعاله.
كنت في الماضي أستطرف العلاقة الشائكة بين الناقد والمبدع وأنحاز آلياً إلى المبدع لقناعتي أنه الشجرة الأصل, التي يتسلق عليها الناقد, بل ويتطفل على جذعها وأغصانها, إلا أن القناعات تتغير مع الزمن أو التجربة, أو النضج, لأنني مالبثت أن اكتشفت ضرورة النقد للإبداع, وضرورة الرقابة والمحاسبة للمسؤول, وضرورة رصد نمو الأولاد وتقويمهم سواء بالحب أو بالحزم, وضرورة رصد المايسترو للعازفين كي تتناغم آلاتهم مع لحن الأوركسترا الكبير, لأن هذا يرتقي بالجماعة,بكل تلاوينها, ضابطاً ومضبوطاً, ومادمنا نعيش ضمن الجماعة, ونعتمد عليها اعتماداً يكاد يتجاوز خمسة وثمانين بالمئة من حياتنا, فلابد أن نخضع للنقد والتقييم, وأن نتلقى هذا النقد برحابة صدر, مهما توهمنا أننا فوقه, وأننا اجترحنا الكمال في أعمالنا ( لا كمال إلا للخالق ), أما مابات المرء يلحظه في حياتنا الراهنة, فهو النظر إلى النقد على أنه قذف وتجريح, وغيرة, وحقد, ورغبة في التدمير, والإعدام المعنوي, لكأن العالم ضفتان إما أن تكون فيها, بمحاذاتي, على اليمين, وإما أن تنصرف إلى الضفة اليسرى دون أن يحق لك إقامة جسر أو عبّارة على الخندق الفاصل بيننا.
وفي الحقل الأدبي بات سهلاً, ملاحظة انعدام النقد, وموت الناقد, بظهور وشيوع تلك العجالات التي تعتمد تلخيص العمل, وبعض الأحكام العائمة, مع مشاعر شخصية ترمي إلى كل شيء عدا الإضاءة على بنية العمل وقيمته, ( لذلك نرى هذا التشتت الثقافي المزري, وانخفاض المتابعة الجماهيرية ولامبالاتها ), أما في الإعلام الذي يتمتع بجاذبية فريدة في المتابعة والنقد, فإياك أن تمس مُعداً, أو مخرجاً, أو مذيعاً, أو صحفياً, كاتب مقالة, بملاحظة, هي في كل وقت جديرة بالأخذ والرد ( هما لبّ النقد ) لأنك إذ ذاك تأتي أمراً إدّاً, وتكسب عداوة قوم تدوم مدى الدهر, وينقطع الحوار, وتنزاح الردود بقدرة قادر من رأيك الذي أبديت إلى شخصك برمته, بحيث يخرج تاريخك من الظل, وتذم في طرائق معالجتك لعلاقاتك الاجتماعية, وتعرى من كل فضائلك,. وأعتقد أن هذه الأساليب في الرد على النقد ومعالجته هي قمة الإرهاب النفسي ( مع رفض التشويه الذي لحق بكلمة إرهاب وغيرها من قبل السيدة أميركا ) بحيث يصبح الصمت والتجاهل ومبدأ (يصطفلوا), أفضل وسائل الوقاية من التجاذبات, وأكثر الجدران علواً وظلاً, لمن يحب المشي: (الحيط - الحيط ويارب السترة)! ولابأس من الخراب الذي تصنعه الأحادية المنزهة عن كل عيب!
لو أن ثقافتنا تتجاوز قليلاً تلك التقسيمات التاريخية إلى كبير وصغير ومحق, ومخطئ, ويجوز ولايجوز, وتكرس ثقافة الحوار بين الأب والابن, والظالم والمظلوم, والمبدع والمتلقي, والمدير والموظف, والمسؤول والمواطن, والزميل والزميل, ربما كانت النميمة والغيبة, في أدنى أحجامها وأضيق حقولها, وربما ازدهرت علاقاتنا, وخفّت الريبة من الإشارة إلى أن سقف بيتنا يدلف, ودخلت في حسن النيات, والخوف على المصلحة العامة, والتخفف من التماهي مع الكمال, لنسارع إلى ترميم السقف لأنه يظلنا ويحمينا معاً.. ولما خفتت كل أناشيد الكون المتنوعة, ليبقى لكل واحد منا نشيده السحري: نشيد حبي لنفسي ويانفسي لا أحب أن أتبصر عيوبك الإنسانية وهناتك العابرة, بل أراك منزهة عن العثرات, وياويل من تسول له نفسه الإشارة إليك بسوء..لأنني منحازة إلى ثقافة لاتعرف ما الفرق بين الذات والموضوع, ولا القدرة على التلبث قليلاً أمام الرأي, لأرد عليه بالرأي, (الرد على الرأي بالرأي هو ذروة القوة والثقة بالنفس وأعمالها), ولا أعترف بقاعدة ذلك الحكيم الذي قال: لاتستهن برأي عدوك, مهما كان رأيك بهذا العدو واستصغارك لشأنه, فكيف إذا كان هذا الرأي ليس من عدو, ولامن خصم, بل ممن يضن بضميره على الصمت والسلبية..ويرفض رفضاً قاطعاً أن ينشد لنفسه نشيد حب وإعجاب ?