نستشرفه من ضيق الطبيعة العالمية الإنسانية جراء ما حدث من نازية إسرائيل على الآمنين العزل، وتجريب الأسلحة المحرمة دولياً في أجسادهم الآدمية دون مراعاة الطفل، والمرأة، والشيخ، أو مراعاة أبسط مشاعر الإنسانية في المجتمع الدولي، أو المعاهدات الدولية ذات الصلة.
وما يسترعي الوقوف عنده هو هذا البروز المنطقي لمقولة: الإنسانية مجموع متضامن، مشترك في قيمه كما في وجدانه، ولشدة ما صبته إسرائيل على غزة من حمم، ولصمود غزة الأسطوري تغايرت في الروح العالمية الشعبية، والرسمية الصورة ليسقط معها القناع المضلل الذي سعت الصهيونية بأن تخفي به وجه إسرائيل العنصري، الاستيطاني، التوسعي، عن عيون الحقيقة، ولكنه في هذه الهمجية على غزة قد انكشف.
والحروب العدوانية -بمقدار ما تلحق الأذى بالموجهة ضده من الشعوب، والدول- تعطي دوماً عكس النتائج على الذين يشنونها، وعليه فلا غزة قد استسلمت، ولا الهمجية قد انتصرت، ولا المجتمع الدولي بقي مضللاً، ولا المنطقة بقيت على ما كانت تريده إسرائيل والداعم الأميركي لها، ولا النظام العربي الإقليمي يستطيع أن يتجاهل عقابيل هذاالعدوان البربري، ولا الشعب العربي مستعد لأن يتجاوز المجازر وينسى دماء أطفاله، ولا ما كان عليه الحال في جيوتاريخية المنطقة، والعالم يمكن أن يستبقى على ما كان عليه.
إذاً نحن -بكل المعايير- دخلنا تاريخاً جديداً بدأت إرهاصاته من دافوس على صعيد العالم تجاوباً مع الذي حصل على صعيدي: الشعب العربي، والعالم الإسلامي، وكذلك الأمم الحرة، وما القرار السياسي النبيل الذي اتخذه السيد رجب طيب أردوغان رئيس الوزراء التركي بالانسحاب من جلسة منتدى دافوس العالمي في سويسرا بعد أن شعر بأنه لن يعطى له الوقت الكافي لدحض أضاليل رئيس الكيان الإسرائيلي شمعون بيريز حول ما حدث، ويحدث في غزة من جرائم حرب ضد الإنسانية إلا الوجه الأكثر صدقية على الحالة الواقعية لشعوب الأرض ضد هذا التغول الهمجي. والأحرار، أصحاب القرار السيادي المستقل أمثال السيد أردوغان لن يسمحوا -بعد اليوم- بأن تنطلي على العالم أضاليل مجرمي الحروب، ومستخدمي الفوسفور الأبيض واليورانيوم المنضب، ولن يسمحوا -في عالم تستعصي فيه أزمته المالية وفشل قوى العولمة فيه- بأن يبقى قياد العالم بأيدي من لا يرون الناس إلا فوائض بشرية يمكن إزالتها من الوجود حتى يهندسوا وجودهم بنظرياتهم الفاشية العنصرية، وكأن هذا الكوكب الأرضي هو ملكهم بامتياز كبير. والعلامة البارزة التي عززت حكمة القرار السياسي الإنساني الحر للسيد أردوغان هي هذه الصورة من الاستقبال الشعبي الحافل لرجل الدولة المحترم حين أمت مطار اسطنبول الجماهير التركية بتياراتها المختلفة لتتفاعل مع موقف رئيس وزرائهم، وتدعم قراره بطريقة غير مسبوقة، وما لفت النظر هو اللافتات التي رفعها المستقبلون، والهتافات التي رددوها وجاء فيها: الموت لإسرائيل، ونحن فخورون بك يا أردوغان ومرحباً بعودة المنتصر في دافوس.
صدق الشعب التركي الحر بكل ما استقبل به رئيس وزرائه، وكم تهز المشاعر حركة الشعب التركي وهو يحمي قراره الوطني، وحكمة ممثليه؟! وكما أسلفنا إن ما حدث في دافوس سيحرك الانفعال البشري في كل مكان من هذا العالم الذي تعب من فشل الذين تسيدوا على سياساته ولم يقدموا خيراً كان يرتجى، وبناء عليه فلم تعد مظاهر التلويح بالقوة تخيف أحداً، إذ ما الذي ستفعله القوة المتغطرسة أكثر مما فعلت في حروب أميركا المزعومة ضد الإرهاب في أفغانستان والعراق، وحروب إسرائيل الهمجية ضد المقاومة العربية المشروعة للاحتلال؟!!
إن تكنولوجيا القتل لم تعط القوة للقطب الوحيد الذي فرض هيمنته على النظام الدولي، وها هو يندحر أمام صمود من ارتكب بحقهم جرائم الحرب العدوانية حين يعلن الرئيس أوباما عن أنه قد يسحب القسم الأكبر من القوات الأميركية في العراق خلال سنة، وكذلك الكيان الصهيوني الذي فشل خلال عامين مرتين أمام صمود المقاومة البطلة في جنوب لبنان تموز 2006، وغزة كانون الأول 2008، وسوف ينعكس هذا الفشل صراعاً داخل إسرائيل.
ولا بد من أن نتوقف عند مجموعة من التحولات أضحت حقائق في السياسة العربية، والإقليمية، والدولية بعد الحرب الهمجية على غزة، وبعد هذا الموقف التركي العظيم شعباً ورئيس وزراء، وبعد دافوس الذي فتح المجال للمعادلات الجديدة، الحقيقة الأولى هي: سقوط خيارات الحروب العدوانية أمام الصمود والمقاومة، الثانية: فشل نظريات القوة في إدارة الحياة الدولية والتطلع لنظام دولي جديد عادل، الثالثة: فشل أحلام الأفراد الذين ادعوا بطاقمهم الخاص القدرة على إقامة نظام عالمي جديد،ولا بد من العودة إلى المؤسسات والاستراتيجيات التشاركية، الرابعة: فشل القطب الوحيد في إدارة النظام الدولي،والحكومة العالمية، ولا بد من عالم متعدد الأقطاب، الخامسة: فشل محاولات التضليل الدولي للرأي العام الدولي وللمجتمع الدولي، وها هي حقائق الإنسانية تفرض نفسها، السادسة: فشل منطق التماهي، والاعتماد على الحلول من الخارج، والعودة إلى قرار الوطن المستقل هي الحل في كل معضلة أو صراع مع العدو.