وينفخ في صلصال الحياة العقلية ليونع قمحاً شهياً يفيض بشهد العطاء وكذلك كانت فلسفته فريدة كفرادة إبداعه وحياته ومن أهم إبداعاته.. رسالة الغفران.. التي بعث بها إلى الشيخ ابن القارح..
التعريف بالرسالة
تتألف رسالة الغفران من مقدمة وقسمين يعرف أبو العلاء المعري في المقدمة عن مودته للشيخ ابن القارح وهو علي بن منصور الحلبي ثم يتحدث عن وصول الرسالة إليه وفي القسم الأول يصف الجنة ويتحدث عن اللغويين فيها ثم يروي رحلة الشيخ إليها ومسيرته في الجنة حيث يلتقي بعدد من الشعراءًَْ ويدور حوار بينه وبين كل منهم عن الشعر والشعراء ثم يبدو له أن يطلع على أهل النار فيركب بعض دواب الجنة ويسير فيمر بجنة العفاريت ثم يرى أهل النار وهم إبليس وبشار بن برد، وامرؤ القيس، وعنترة وعلقمة وعمرو بن كلثوم وطرفه بن العبد وأوس بن حجر والأخطل والمهلهل والشنفرى وتأبط شراً وهذا هو القسم الثاني تعود أهمية رسالة الغفران إلى القسم الأول، فهو رحلة متخيلة إلى الجنة وإن يكن أبو العلاء قد أفاد من قصة الإسراء والمعراج التي وردت في القرآن الكريم فإن تأثير رسالته في الأدب كبير إذ يتحدث أكثر من باحث عن تأثر- دانتي- في الكوميديا الإلهية برسالة الغفران، ويبدو أن أبا العلاء عمل على تقديم معرفة بالشعر تاريخياً ونقداً، ودافع عن بعض الشعراء الذين اتهموا بالزندقة ورغم أن الله قد غفر لهم، ولهذا اسمى رسالته برسالة الغفران وقد اعتمد المعري في كتابة الرسالة على السجع والتزام مايلزم به واستخدام الغريب من الكلام والتألق البديعي وأحكام الصنعة، وعلى بنية قصصية متماسكة.
الرسالة الشكل والإطار
تتخذ رسالة الغفران.. الرسالة شكلاً وإطاراً ويبدو أن الواقع الثقافي العربي الذي كان قائماً آنذاك هو الذي اقتضى هذا الشكل الأدبي ليكون إطاراً والمعروف أن الإطار عنصر أساسي من عناصر أي نص سردي عربي قديم كمافي ألف ليلة وليلة، وكليلة ودمنة حيث نجد أن الشكل قصّ تنظيم القصص المتتالية في إطاره وهكذا يبدو الشكل الإطار كأنه العنصر الذي يؤدي وظيفته، إعطاء النص مشروعية انتظامية في بنية الثقافة العربية واتخاذ موقع فيها يؤدي منه دوره.
ضمن هذه الرؤية السردية يتبين أن أبا العلاء المعري كان يطور إنتاجاً أدبياً سابقاً ومعاصراً له، من هذا الإنتاج قصة الإسراء والمعراج، قصص الرحلات وتطور هذا النوع إلى قصص المقامات وقبل أن يتبلور قصّ المقامة كان إنجاز أبي العلاء العبقري يتحقق، فأبو العلاء كان مشغولاً بقضية الشعرية العربية على مستويي التأريخ للشعر ونقده، والصنعة اللغوية، وبقضية الوجود الإنساني الدنيا والآخرة- الخير والشر- الثواب والعقاب والغفران فتمكن مستفيداً من التراث الأدبي والفكري الذي يعرفه جيداً من إنتاج رسالة تتضمن في إطارها قصة جديدة تروي وقائع رحلة متخيلة إلى العالم الآخر.
البنية القصصية للرحلة
إن العالم الذي تتم الرحلة إليه هو عالم الشعراء جنة الشعراء ونارهم، فما يعني أبا العلاء، هو هذا العالم والكتابة عنه، يؤدي القص الراوي العليم الذي يعرف كل شيء، فيروي مايفعله الشيخ ابن القارح بضمير الغائب وينشء بنية سردية تتابع فيها الأحداث فيجد القارئ نفسه إزاء مشاهد متتالية يتحكم الراوي في تحفيز مسارها، ثم يستطرد فيقدم معلومات لغوية أدبية غاية في الروعة تبدو قصة الرحلة في هذه الرسالة، كأنها وقفة طويلة أجلّت الإجابة عن الرسالة، والإجابة فيها تشويق للراغب في قراءة الرد، وتأجيل الإجابة ما كان إلا لتقديم رؤية المعري الشعرية في إطار رحلة تنطق برؤيته الدينية وفي بعض الحالات كانت الرؤيتان الدينية والدنيوية تتداخلان كأن أبا العلاء انفصل عن عالمه إلى العالم الشعري، ومن ثم إلى العالم الآخر وهذا ماكان يحصل في الواقع الحياتي، وهو ماتنطق به الرسالة، يقول المعري في نهاية رحلته في وصف العالم الذي رحل إليه بعد ما التقى بالشعراء وحاورهم وحقق ذاته إزاءهم بإظهار قدرته النقدية، في مقطع يدل على بلاغةٍ ومقدرةٍ وعبقريةٍ في سرد القصص فيقول «ويتكئ على مفرشٍ من السندس، ويأمر الحور العين أن يحملن ذلك المفرش، فيضعنه على سرير من سرر أهل الجنة، وإنما هو زبرجد وعسجد، ويكوّن الباري حلقاً من ذهب وتناديه الثمرات من كل أدبٍ وهو مستلقٍ على الظهر فإذا أراد عنقوداً من العنب أو غيره انقضب من الشجرة بمشيئة الله وحملته القدرة التي فيه».
وأخيراً تتخذ رسالة الغفران بنية سردية قمة في العبقرية تروي قصة رحلة إلى العالم الآخر تتوالى المشاهد في مسارٍ خيطي يقطع بالتعليقات والشروحات النقدية واللغوية، ويبدو أن الدلالة التي تنطق البنية الكلية للرسالة، هي رؤية أبي العلاء إلى القضيتين اللتين كانتا تشغلانه في عزلته في عالم الشعر والفكر، وهما الشعرية العربية والوجود الإنساني فتنطق البنية الكلية بما يتيح لأبي العلاء أن يحقق ذاته في عالمه.
فيكوّن العالم الفذّ بالشعر ويحقق حلمه بالخروج من العالم الفاسد إلى العالم الآخر حيث يتحقق له الغفران والنعيم الدائم.