يستعيدون ويسترجعون ذكريات مرحلة سبقت هذه الدنيا حيث كان الإنسان يعيش فيها قريباً من الآلهة ويتأمل في عالمها العلوي وما فيه من سحر وجمال ومثل وقيم وبعدها هبط إلى الأرض وأقام فيها وأخذ يحنّ ويتشوق إلى تمثيل ذلك الجمال الذي كان يعيشه في ظل الآلهة.
فيخيل لنا كأن الفنان رأى عمله الفني ماثلاً أمامه قبل أن يشرع في تحقيقه وكأنه رآه في حلم أو استمع إلى نداء وهو يلبي هذا النداء. وقد اعترف العديد من المفكرين بما يدعم هذه الأفكار حيث قال نيتشه: «يصبح شيئاً ما مرئياً ومسموعاً بتأكيد ووضوح لا يوصف، والمرء لا يبحث بل يأخذ...».
وقد وصف غوته عملية نشوء عدد من قصائده قائلاً: «كانت تهبط عليّ بغتة، ومرادها أن تؤلف في الحال إلى حدّ أشعر معه أنني مدفوع بالغريزة إلى كتابتها في المكان الذي أجد نفسي فيه وكأني في حلم، وفي منحى آخر فإن الفنان يتصف بموهبة الإبداع والقدرة على الاختراع وتحمل الفنون طابع شخصية الفنان المبدع، ويعبّر العمل الفني عن الأنا العميقة في اللاشعور المتكونة من الذكريات والانطباعات والصور والاندفاعات التي تقود الفنان في آفاق الإبداع فيكون العمل الفني بمثابة نتاج اللاشعور، يرتوي من الطبقات الخفية لشخصية الفنان والأحداث التي ارتبطت بها مراحل حياته. فاعتبر اللاشعور مصدراً للوحي لمن يترقب الومضات الشعرية والصور الفنية والعمل الفني هو صلة الوصل بين الروح والعقل، هو مظهر مادي لشيء روحي داخلي. وقد اهتم السرياليون باللاشعور والتنبؤ بدخول منطقة الأعاجيب والحلم والخروج عما هو مألوف وتجاوز الحدود الإنسانية المعروفة، وكان الحلم لديهم هو من يزوّدهم بفيض من الكلمات والعبارات والصور والتخيلات. وهذه الأفكار قد تكون السبب وراء جهل الفنان الشروط والظروف التي أسهمت في إشراق الفكرة المتعلقة بإبداع العمل الفني، وإذا كان اللاشعور يقدم المادة الخام للعمل الفني فإن الشعور هو من ينظم وينتقي ولكن من الصعب التحديد بدقة نسبة دور كل منها في عملية الإبداع الفني.
إذا كان يخيل للفنان في بعض الأحيان أنه يبدع العمل الفني من لا شيء فذلك يسبب عدم تذكره العناصر اللاشعورية التي أسهمت في إبداعه الفني أو الأدبي، فقد كتب الشاعر الألماني غوته آلام فيرتر ليتحرر من الهواجس والوساوس التي استحوذت عليه.
ثمّة ما يجعل الفنان يشعر بعدم الرضا عن إنتاجه الفني ويردد وينادي ليس هذا هو المطلوب، فيعيد البناء والمحاولة وهذا ما يفسر وجود أكثر من صورة على طبقات اللوحة الفنية الواحدة. فالعمل الفني ليس نتيجة إشراقات مفاجئة فحسب، بل ثمرة قدرة تتمثل في تنظيم الأحلام وصياغتها في صورة جمالية تتلاءم مع شعور الفنان.
وإذا كانت عوامل الإبداع والابتكار الخلاّقة تدل على الخصب الفني والمرونة تدل على مدى تقبل الصور الجديدة والأصالة تدل على إدراك الأشياء في صور غير مألوفة فهذا دليل على أن عملية الإبداع تمر بمراحل.
وإذا كان بعض المفكرين والفنانين يظنون أن الإبداع يتم في لحظة الإلهام التي لا يسبقها شيء ولا يتبعها شيء فإن هذه اللحظة من لحظات يقظة العبقرية ليست سوى مرحلة تسبقها مرحلة الإعداد والتهيؤ والتعرض للمثيرات تحفز في النفس الرغبة في الإبداع وتلحقها مرحلة تقويم العمل والرضى الشخصي عنه.
ومما تقدم نلتمس أهمية تلك العلاقة الجدلية بين الشعور واللاشعور وإذا كان الإغريق يعتقدون أن الوحي هو من ربّات الفنون (muses) فإن الإنسان أخذ يهتم بمعرفة مصدر الوحي والإلهام وصلة الأنا السطحية والشعور بالأنا العميقة واللاشعور واعتبار الإبداع والاختراع ثمرة الحرية والسرور الفكري والتأمل الداخلي.