تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


كل خميس... حديث الثلج.. بعد ذوبانه..

ثقافة
الخميس 28-3-2013
حكيم مرزوقي

حملت ابنتي ذات السنة الواحدة وأخذتها إلى النافذة كي تشاهد الثلج لأوّل مرّة في حياتها...ابتسمت ابتسامتها العريضة ,وأشارت بيدها في فرح...لعلّها تحسبه وليمة جادت بها السماء من وجبتها المفضّلة: أي خبز منقوع في اللبن أو رزّ مسلوق... أو حتى فقاعات صابون من تلك التي تطلقها قاطرتها الحمراء الصغيرة.

شكرا أيها الثلج لأنك جئت بلون لحية (بابا نويل) وعلى إيقاع جرسه وبهجة هداياه... بعد مطر صلّى لأجلها فلاّح يزرع وطفل يرضع ودابة ترتع...وقلب يخشع.‏

شكرا أيها الثلج لأنك أهديت الأشجار والبيوت قبّعة بيضاء ,ودعوت الجميع إلى الرقص ,لاعبتهم أيها الأبيض ,دون أن تفرّق بين غني أو فقير.‏

شكرا أيها الثلج لأنك أفرحت ابني الصغير,جعلته يتذوّق دبس الرمّان ويستمع إلى فيروز بشيء من الانتباه.‏

كم قد صنعنا منك كرات ونصباً وتماثيل...ثمّ اختفت عند بزوغ أوّل شمس...وظللنا ننظر إليك أيها الثلج فوق القمم العالية وكأنّك تعود إلى السماء... لكنّك لم تختف من ذاكرتنا المضربة عن النسيان فينا.‏

لعلّ من أفضالك أن جعلت الناس يمرحون مثل القطط الصغيرة مع بكرات الصوف....وجعلت البحتري يعتكف في بيت صديقه ويكتب ديوان (الحماسة) بعد أن منعته من العودة إلى بيته وقطعت عنه الطريق.‏

لكنّك أيها الثلج ,تثقل في المزح أحيانا مع أكواخ الفقراء وأجساد العراة وحقول المزارعين ومراكب الصيّادين..وصغار الكسبة والمشرّدين.‏

شاهدناك في أفلام معارك الحرب العالميّة ,تجمّد الدماء في عروق الذاهبين إلى حتفهم...مرورا بحروب البوسنة...وأنت تغطّي جثث الضحايا ودماء الأبرياء والمغتصبات...وصولا إلى ما سوف يأتي من فواجع ومآس يتناوب عليها الإنسان والطبيعة..الطبيعة التي استثار غضبها جشع الإنسان ورعونته.‏

أيها الفتات النازل فوقنا من راحة السماء السخيّة ,أيها الضيف الخجول الذي يتوقّف عند عتبات المنازل دون أن يطرق أبوابها,كيف يستقبلك ويرحّب بك من لا يملك طعاما أو شرابا أو نارا أو ثيابا أو بيتا...أو حبيبا يتدفّأ ويسكن ويقتات من قلبه....‏

لكم تشارك في الرومانسيّة غني مترف مع فقير متقع ,:الأوّل يشعل الشمعة باختياره,أمّ الثاني فلا يملك خيارا آخر,الأوّل يزرع في حديقة بيته لمجرّد المتعة ,أمّا الثاني فللحاجة...ولكن ما أجمل الضرورة حين تلتقي بالمتعة.‏

أيها الثلج ,مثلما نزلت فرحا وسلاما عشيّة ميلاد رسولي المحبّة ,فإنّك مازلت تنزل (أغطية) لمرضى وجرحى بلا مسعفين ولا أطبّاء...مازلت تنزل أكفانا وشواهد بيضاء على موتى كثيرين في هذا العالم بلا هويّة ولا عنوان...ولا حتى قضيّة.‏

بدأت الأسئلة تهطل فوق رأسي وأنا ألاعب طفلتي الصغيرة ,أحدّث نفسي وأحدّثها في صمت:‏

سبحان الحكمة الإلهية التي جعلت من القطب الشمالي لكرتنا أبيض ومن قطبها الجنوبي أبيض..وبينهما بقيّة الألوان..!.‏

هل لأنها جاءت لتذكّرنا بلون البداية ولون النهاية ,لماذا تهطل الثلوج في صمت ودون ضجّة,وكذلك تفعل الشموس حين تشرق أو تغيب ,الأشجار والأزهار حين تتفتّح وتنضج ثمارها...أمّا حبيبات الفستق فتصدر أصوتا تقارب التناغم الموسيقي الأخّاذ حين تتفتّح في الليل ,إنها مثل فراخ تطلّ برؤوسها على الحياة لأوّل مرّة.‏

استدركت قائلا:ماذا فعلت بي أيها الثلج هذا الصباح ؟!..لماذا لاتنتابني هذه الأفكار عندما كانت شموس تمّوز تجثم فوق رؤوسنا وتكاد تذيب آخر ما يسيل من الخيال.‏

امضي إلى حضن أمك يا بنيّي ,سأخرج لملاقاة الثلج..وأحدّثه عن كل شيء...وكذلك عن أمي التي كانت تقضي الليل في همّي.‏

hakemmarzoky@yahoo.fr

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية