ولماذا تعرَّض جميع المتصوفة إلى هجوم فئة كبيرة من الناس، حتى وصل الأمر إلى تكفير بعضهم وقتل بعضهم الآخر؟
لقد تخلى الصوفية عن زخرف الدنيا، وزهدوا فيما يسعى إليه الناس من مال وسلطة، وانقطعوا إلى خلواتهم، لا يطلبون سوى التقرب من الله/ الحق. وكما يقول نيكولسون: «إن التصوف فلسفة الإسلام الدينية، وتعرف بأنها إدراك الحقائق الإلهية. ولذلك كان المتصوفون مغرمين بأن يدعوا أنفسهم أهل الحق».
وفي حقيقة الأمر، فإن المتصوفة تمادوا في زهدهم، إلى درجة أنهم فضلوا الفقر على الغنى، والعزوبة على الزواج، وانقطعوا إلى الخلوة الإرادية لتهذيب النفس، وإزالة الحجب البدنية.
ذهب الصوفية إلى أن تجاربهم الروحية عصية على الوصف ومتعالية على الشرح، لذلك فقد آثر بعضهم عدم الشرح، بل وصفوا ما شاهدوا أو كشف لهم. وفيهم قال الغزالي: «وظهر لي أن أخص خصائصهم ما لا يمكن الوصول إليه بالتعليم، بل بالذوق وحال وتبدل الصفات». وقد اعتمد الصوفية على المعرفة الحسية والمعرفة العقلية، وأضافوا إليها المعرفة الدينية كأساس.
اللغة الصوفية لغة عالية، تفتح تساؤلات، وتحتمل تأويلات كثيرة، ولأنها لغة رمز، فإنه لا بد لنا أن نتأمل ما وراء النص الصوفي. فالرمز – حسب أدونيس - «هو، قبل كل شيء، معنى خفي، وإيحاء، إنه اللغة التي تبدأ حين تنتهي لغة القصيدة، أو هو القصيدة التي تتكون في وعيك بعد قراءة القصيدة..».
أحدثت اللغة الصوفية تغييراً كبيراً في اللغة العربية، وبرز المتصوفة كمجددين. وبتعبير أدق، كان المتصوفة قادة الثورة اللغوية في التاريخ العربي. ويمكن التجرؤ على القول إن بداية الحداثة في تاريخ اللغة العربية، انطلقت مع كلام المتصوفة. وما زال المتصوفة إلى اليوم يعتبرون سادة في علم اللغة، وما زال تأثيرهم قوياً في الشعر الحديث وفي الأدب المعاصر عموماً. وللأسف فعلاً، أنه لم يأت، ومنذ أيام المتصوفين العرب إلى اليوم، من جاء واستطاع أن يفجر المعنى ويتفوق على اللغة الصوفية.
وببساطة، إن المتصوفة قد حطموا نظام اللغة الذي كان سائداً، وتجرؤوا، بحرفية قلَّ نظيرها، أن يخربوا المنطق الداخلي للغة. لقد اخترعوا لغة عربية جديدة، من الحروف نفسها، ولكن بدلالات جديدة وخارقة.
من بين الذين تأثروا بالتصوف وباللغة الصوفية، يجيء أدونيس كواحد من أهم الشعراء العالميين المعاصرين. وهو – أي أدونيس – لم يخفِ إعجابه الشديد بالصوفية، إذ يقول: «الصوفية العربية – كما أفهمها شعرياً – هي هذا النسيم المبثوث في العالم وفي الأشياء، بحيث يصبح العالم كله شفافاً، ولا يعود هناك حواجز بين الشخص والآخر، بين الذات والموضوع، بين العالم الداخلي والعالم الخارجي». ومن هنا، فقد أطلق أدونيس على مجلته اسم (مواقف) تيمناً وإعجاباً بكتاب (المواقف) للنفري.
أثبت الشعر الصوفي أنه يسير إلى المستقبل، المستقبل البعيد فعلاً، ولذلك فهو شعر تجديدي انقلابي وثوري بالضرورة، شعر في مواجهة العالم الثابت، شعر خلخل الواقع العربي وشحنه بالخيال والحلم.
يمكن لنا أن نأخذ النفري كمثال على التفوق اللغوي على صعيد الشعر والنثر العربيين، فهو، وبالإضافة إلى تأسيسه لمذهب صوفي جديد، تميز بأسلوب رمزي ذي صياغة رفيعة، تحققت فيه أرقى درجات البلاغة.
ومع أن (مواقف) و(مخاطبات) النفري كتبت نثراً، إلا أنها تدخل في حيز الشعر، الحداثي منه على وجه الخصوص، وكأن النفري قد فتح باب الحداثة الشعرية العالمية، وسبق قصيدة النثر بألف عام.
يقول النفري في (المواقف):
«وقال لي: قف من وراء الكون، فرأيت الكون، فسألت الكون، فجهل الكون، فسألت الجهل، فجهل الجهل».
اشتملت نثريات النفري على مقومات شعرية، لها سمات نثرية، ولكنها في الواقع، كانت رؤية متقدمة في عصر لم يقم لها وزناً، وربما ذلك لأسباب تخص ذلك الزمان، في مقدمتها خروجها عن المألوف، من حيث الشكل والمضمون:
أوقفني في الموت، فرأيت الأعمال كلها سيِّئات، ورأيت الخوف يتحكم على الرجاء، ورأيت الغنى قد صار ناراً ولحق بالنار، ورأيت الفقر خصماً يحتج، ورأيت كل شيء لا يقدر على شيء، ورأيت الملك غروراً، ورأيت الملكوت خداعاً. وناديت: يا علم! فلم يجبني. وناديت” يا معرفة! فلم تجبني. ورأيت كل شيء قد أسلمني، ورأيت كل خليقة قد هرب مني، وبقيت وحدي. وجاءني العمل، فرأيت فيه الوهم الخفي، والخفي الغابر. فما ينفعني إلا رحمة ربي. وقال لي: أين علمك؟ فرأيت النار. وقال لي: أين عملك؟ فرأيت النار. وقال لي: أين معرفتك؟ فرأيت النار. وكشف لي عن معارفه الفردانيَّة، فخمدت النار. وقال لي: أنا وليُّك، فثبتُّ. وقال لي: أنا معرفتك، فنطقتُ. وقال لي: أنا طالبك، فخرجتُ.
إن الإيقاع الجميل في وقفة النفري هذه، تدل على شعرية هائلة، حتى وإن تخلت عن العروض، وهي شعرية منسجمة في متتالية منطقية، لتشكل وحدة إيقاعية متشابكة بعلاقة جدلية بدلالاتها. تستمد هذه الشعرية قوتها من استنادها على رؤية كلية للوجود، انبثقت عنها مجموعة من الوحدات الإيقاعية الدلالية. وبذلك ارتقت شعرية النفري إلى مراتب عظيمة بين الشعر الحديث الآن، وارتقت كذلك لغته من برزخ المعقولات الكونية إلى برزخ المعقولات الإلهية.
توجه الصوفية لاستخدام الرمز والإشارة، وربما ذلك لشعورهم بأن اللغة قاصرة عن أن تؤدي المعنى الذي يرتجيه أحدهم، فهي – أي اللغة – عاجزة عن أن تنقل عوالم الصوفي الشاسعة والمترامية، وهذا ما عبر عنه النفري بقوله: «كلما اتسعت الرؤيا ضاقت العبارة». واللغة (أي العبارة التي يقصدها النفري) كانت أصغر من الرؤيا، فوجب على الصوفيين أن يحملوا هذه اللغة الرموز والإشارات، علها تفي الغرض منها. يقول خالد بلقاسم في كتابه (أدونيس والخطاب الصوفي): «غموض الخطاب الصوفي واستغلاقه على أهل الظاهر و أهل النظر يرجع إلى معاناة المتصوفة مع اللغة واصطدامهم بمحدوديتها وبعدم قدرتها على الاستجابة لسفرهم نحو المطلق».
ويقول محمد بنعمارة في كتابه (الأثر الصوفي في الشعر العربي) حول اللغة الصوفية واستغلاقها على القارئ : «فهي لغة غامضة لا تسلم المعنى لمن لم يتوغل في المعادل الروحي للتجربة الروحية، إذ إن اللغة في مثل هذه الحالة متصلة اتصالاً عضوياً بعناصر التجربة الذوقية ومن لم يصل إلى ما وصل إليه الناطق بهذه اللغة لم ينل منها إلا ظاهر معانيها».
أعطى الصوفيون للحروف قيمة دلالية كبيرة، رغم أن علماء اللغة عدوها بلا معنى إذا كانت مستقلة. وأصبح الحرف يحمل دلالات متعددة، ويلبس معاني متغيرة. وفي هذا يقول الشيخ الأكبر ابن عربي في كتابه (الفتوحات المكية): «إن الحروف أمة من الأمم، مخاطبون ومكلَّفون، وفيهم رُسُل من جنسهم، ولهم أسماء من حيث هم، ولا يعرف هذا إلا أهل الكشف من طريقنا، وعالم الحروف أفصح العالم لساناً وأوضحه بياناً».
ما تزال الصوفية مصدر بحث لدى شعراء عرب كبار، وما تزال أيضاً تراثاً يدرسه المستشرقون الغربيون، ويفتنون به. ولم يكن هذا الولع بالصوفية، سوى لأنها ما زالت تثير الأسئلة الكثيرة، وتفرض نفسها، باعتبارها حركة ثورية، ولنقل إنها من أهم الثورات الفكرية في تاريخ العرب، إن لم تكن أهمها على الإطلاق.
من يقرأ شعراء الحداثة المعاصرين، سيجد بلا شك أن كثيراً منهم تأثر بها، واعتبرها منهلاً ثراً وأساساً متيناً لقيام أعمدة الحداثة. إنها تجربة غنية بلا حد، وقابلة لقراءات لامتناهية (ربما ككل النصوص الكبيرة، ولكنها تتميز بفتحها الآفاق الواسعة). ومن خلال تأثيرها في راهننا، فإنها قد ترسخت جزءاً من الحركة الحضارية الفكرية المعاصرة.
ارتكزت النصية الشعرية عند كثير من الشعراء العرب الكبار (أمثال أدونيس، ومحمود درويش، ونازك الملائكة، وبدر شاكر السياب..) على الإرث الصوفي الضخم الذي تركه الصوفيون، أمثال: النفري، وابن عربي، والبسطامي، والحلاج، ورابعة العدوية، والقشيري والجيلاني والجيلي، وابن الفارض وباقي أقطاب الصوفية.
وقد حرر الشعراء العرب من جيل الحداثة وما بعده، لغتهم من كلاسيكيتها، وشرعوا باستخدام تكنيكات كتابية جديدة، مستفيدة بشكل جلي من الصوفية الكبيرة والمتحررة حقاً. لقد شكلوا عالماً جديداً، عالماً رفض السكون المرعب للغة، والفكرة، واستنكر لكل الموات والترهل، وخلقوا فعلاً لغوياً متفوقاً، قوامه الثورة المتجددة بما تحمل هذه الكلمة من معنى، وبدل من فكرة إحداث (قطيعة) مع الموروث، كضرورة لقراءة جديدة، قام رواد الحداثة، بالاستغراق في النص الصوفي، ومن ثم إخراجه - بعد التشبع به – بحلة جديدة، بكتابة تتصل بتاريخها ولكنها تنكره على هيئته القديمة. يتساءل أدونيس: «هل بمقدور الكلمة أن تقول كل شيء؟ هل يمكنها ذلك؟» ثم يجيب: «ما يضفي أهمية فريدة على الكتابة هو أنها تهدم وتعيد البناء، وتنزع أقنعة الزيف. علينا أن نكتب من أجل تدمير كل كذب، بغية تجاوزه. فمن دون ذلك، لن يعود للكلام والكتابة أي قيمة. إذا لم تكافح الكتابة هذا الكذب، فإنها تخلق أقنعة أخرى، ويغدو الكلام حينئذ هو القناع الكبير الذي يتوارى خلفه مجتمع بأكمله».