عبرت مع أسرتها الجسر الخشبي فوق نهر الأردن، لتستقر في البحرين المحاطة بالمياه من كل الجهات، عشقت البحر وأخذت ترسم اللون الأزرق، لوناً يلف عالمها الصغير، تابعت دراستها وحصلت في عام 1981 على بكالوريوس في إدارة الأعمال من جامعة البحرين، عملت لسنوات في اختصاصها، قبل أن تدركها شياطين الرسم ثانية، فتركت كل شيء لتستعيد اكتشاف موهبتها الأولى, وحصلت في عام 1990 على دبلوم من أكاديمية الفنون الجميلة في لندن, وقررت أن تحترف الرسم.
ما بين ذلك التاريخ ومعرضها الذي أقيم في «صالة السيد» بدمشق رحلة فنية مليئة بالمعارض والجوائز، لكنها تشكل خطاً صاعداً في منحى تطورها كفنانة، منحى صاعد في أسلوبيتها وفي أدواتها التعبيرية أيضاً. مما أغرانا بالحوار التالي:
• لماذا اختارت هائلة الوعري عنوان معرضها «القدس هنا ... وهناك»؟
•• لأن القدس حقيقة موضوعية قائمة هناك في الجغرافيا تحت الاحتلال منذ 1967، دون أن يلغي ذلك أن القدس ما زالت قائمة هنا في وجداني وفي وجدان كل فلسطيني بل وكل إنسان عربي، وهذه الحقيقة الوجدانية لا تقل أهمية عن الحقيقة الجغرافية.
هذا الوجود الوجداني بالنسبة لي كان في خلفية معرضي الذي أقمته عام 2003 بعنوان «بقايا ذاكرة... بقايا أثر»، وتجلى بشكل واضح في المعرض التالي «القدس في الذاكرة» عام 2006. لكنني في هذا العام قررت أن أقدم شيئاً متميزاً لاحتفالية القدس عاصمة الثقافة العربية، فكان هذا المعرض الذي افتتح في مارس /آذار من هذه السنة في الأمانة العامة لمدينة عمان، وانتقلت به في 2 أغسطس /آب إلى دمشق، وسيعاد افتتاحه في نوفمبر /تشرين الثاني من هذا العام في تونس أيضاً. كمساهمة مني للاحتفاء بهذه المدينة التي خرجت منها قبل أن أكمل سنواتي الخمس، لكنها ما زالت تسكنني بتفاصيل كثيرة أسعى جاهدة لالتقاطها وإعادة تثبيتها على سطح لوحاتي.
• دعينا نعود إلى تلك اللحظة الأولى التي أشعلت فيك الرغبة بالرسم؟
•• ربما سكنني هاجس الرسم منذ الطفولة، وتحديداً بعيد خروجنا من مدينة القدس، إذ شكل هذا الخروج بضغط الاحتلال ثقلاً في ذاكرتي وفي نفسي، لم استطع أن أتحرر منه بعد، ولا زال يلح عليّ مشهدين من يوم الخروج: الأول هو مشهد «الوداع» كما حاولت التعبير عنه في إحدى لوحاتي، حيث مجاميع من البشر متجمعة حول الباصات، تتوادع في مشهد مليء بالأسى والحزن، وكما نلاحظ بين هذه المجاميع تظهر بيوت مهجورة أو فراغات الأبواب, وقد استخدمت في رسم هذه اللوحة ألونا ترابية داكنة تميل إلى السواد في بعض زواياها.
أما المشهد الثاني فتشكل أثناء عبورنا الجسر الخشبي إلى الأردن، إذ سقطت لعبتي التي كنت أحملها وأطلق عليها أسم «عماد»، وقع عماد في النهر، صرخت، لكن أحداً لم يُنقذ «عماد» وضاعت مني هذه الشخصية /الدمية/ لكنه عاد في أغلب لوحاتي شخصاً بل شخوصاً متخيلة بلا ملامح.
هذه المرحلة استمرت معي حتى دراستي الثانوية في البحرين، إذ كنت مولعة برسم الماء والبحار، ففي هذه المدينة يكاد البحر يلفنا من كل الجهات، وأحسست أن اللون الأزرق أخذ يلف عالمي الصغير أيضاً.
طبعاً هناك مساحة بين هذه الهواجس وبين دراستي الأكاديمية لفن الرسم لاحقاً في لندن، إذ سيطر عليّ الملل من الحياة العملية، عادت شياطين الرسم تتحرك في داخلي، كان يملؤني الإحساس بعوالمي الداخلية، وبضرورة التعبير عنها، وإخراجها إلى العلن، فأنا طفولتي الأولى في مدينة القدس لم أستطع التحرر منها، بل كانت تعيدني دائماً إلى تفاصيل بعضها غير واضح الملامح، وليس من الضروري أن يكون واضحاً. كل هذه الأحاسيس مجتمعة دفعتني إلى احتراف الرسم منذ التسعينات.
• في هذه المعرض نجد سيطرة للأسلوب التعبيري في التصوير مع ميول تجريدية، كيف تحدد هذا الاتجاه؟
•• بدايتي مع الاحتراف كانت تجريدية، كنت أشتغل على مساحات اللون والضوء والضربات العفوية أحياناً، لكنني منذ عام 2000 تقريباً بدأت أكتشف أهمية توظيف بعض الرموز في جسد اللوحة، خلطت بين اللون والرمز والخط، وفي معرضي «بقايا ذاكرة... بقايا أثر» سيطر عليّ الإحساس بالمكان، فكان للمكان حضوراً طاغياً في اللوحة، القدس، المدينة القديمة، الحارات، الأبواب. لم أسع في تلك المرحلة إلى التقاط الوجود الإنساني, لكنني لاحقاً كما تكتشف في هذا المعرض، وفي جميع لوحاتي وجود أشخاص، نساء بلا ملامح، بشر يشكلون وحدة عضوية مع المكان. وإن كان لبعض الفنانين أن ينتقلوا من التعبيرية إلى التجريد، فإنني سرت في المنحى المعاكس، إذ انتقلت من التجريد إلى التعبيرية التي ما زالت تحتفظ بميول تجريدية كما قلت. فأنا أهتم باللون. وكما تلاحظ في هذه اللوحات أحاول استخدام كل الألوان تقريباً. وفي أغلبها أميل إلى استخدام ألوان متفائلة، موحية بالأمل، فالناس ملّت من أخبار الموت والحرب، وعلى الفنان أن يعبر عن موضوعه بطريقة ذكية ومتفائلة.
أنا أحب الاشتغال على الألوان الصعبة، بل أحسها تحدياً لي كفنانة، واللوحة التي لا تحتفي باللون لا تعطيك قيمتها الإبداعية.
مع ذلك ترى في هذه اللوحات عناصر رمزية قليلة لكنها مؤثرة في تحديد اتجاهات التلقي لدى المشاهد، ففي لوحة القدس تكتشف رموز الهلال والصليب، قبة الصخرة وكنيسة القيامة. وفي الجانب الآخر تقبع المستوطنات، وبينهما ينهض ملاك أخضر، ملاك بهيئة إنسان، ما دام الله صنع الإنسان على هيئته. نلاحظ في هذه اللوحة كتلة الشعر المشغولة بلون ذهبي مضيء ونوراني.
في لوحة «طفولة القدس» استخدمت اللون الأسود لقوة التضاد الذي يصنعه مع الخلفية الصفراء، ملائكة بلون أسود لكن الحركة العفوية في رسم الهيئات توحي بالتفاؤل أيضاً.
• نلاحظ في لوحاتك ميل لاستخدام الخطوط المنحنية الأقواس, القبب، الدوائر، مع وجود خطوط مستقيمة بل حادة أحياناً؟
•• الخط المنحني هو خط نسوي بشكل عام، خط لدن ومرن, موحٍ وعفوي بآن معاً. أشعر أن في الخط المنحني أنوثة أكثر، وخيال أخصب، بل كمية من الموسيقا الانسيابية والعفوية، أما بشأن الخطوط المستقيمة والتي تكاد تقسم اللوحة إلى جزأين، فغالباً ما يمثل هذا الخط الفاصل رمزاً لجدار الفصل العنصري، رمزاً لقوة الاحتلال التي ضربت المدينة وخربت البلاد والمكان، رمزاً إلى ألهنا والهناك، مع أن هذه الخطوط بمجموعها تشكل مستويات لونية للرؤيا توحي بالعمق والأبعاد أيضاً. وكأنك تشاهد المدينة والمكان في أبعاده الثلاثة. المسجد في العمق ثم البيوت والحارات, وفي المقدمة نحن نكاد نحتك بالأشخاص، وأغلب شخصياتي نساء.
من جهة ثانية لجأت إلى تكتيك آخر في اللوحة عبر استخدام كثافات من المعجون، بل مواد أخرى تعطي سماكات لونية، أراها معبرة في اللوحات الكبيرة بشكل خاص، تلك اللوحات التي تحتاج إلى الابتعاد قليلاً عنها كي تتأملها بعمق أكثر.
• أنت فنانة مقدسية المولد بحرانية الموطن، هل أثر ذلك في تجربتك؟
•• بالتأكيد أثر ذلك في تكويني الفني، وفي مجمل تجربتي. فكما حدثتك عن أثر الخروج من القدس في تكوين ذاكرتي الأولى، هناك العلاقة مع البحر في ذاكرتي الثانية. وعموماً أنا تفتحت تجربتي الفنية في البحرين، بل نمت شخصيتي ككل في فضائها الذي لا أستطيع أن أنفصل عنه، فيها تربيت على أيدي فنانين كبار، وهم من شجعني على احتراف الرسم، شاركتهم كهاوية في أكثر من معرض، ثم أقمت معارض مع وزارة الثقافة، ونلت عدداً من الجوائز التقديرية في البحرين.
وأنا اعتبر البحرين موطني الثاني بعد مدينة القدس التي ولدّت فيها، والحركة التشكيلية في البحرين نشطة بالعموم، وتحظى برعاية الدولة، فيها جمعيات فنية متعددة، وهناك معرض سنوي لفناني البحرين, وأنا عضو في جمعية الفن المعاصر، ولا يمكن فصل تجربتي الفنية أو رؤيتها بعيداً عن المشهد التشكيلي البحريني.