وبشيء من التداخل المتدرج الإيقاع، المختلف الوتيرة، وضمن تجمعات حركية قد تأتي من أسفل، أو قد تعبر من طرف إلى آخر، أو قد تأخذ شكلاً متفجراً، يبدأ من نواة وسط اللوحة، ثم يدور حول هذه النواة، تماماً كما هي المجرات في السماء، وقد يأخذ حركة الريح أو الزوبعة التي تبدأ حركتها في أحد أركان اللوحة، ثم تخرج من ركن آخر، بعد أن تترك مجموعة كبيرة من الحروف المرسومة بإيقاع مموسق، وبألوان كثيرة، بينها الحار والبارد، الفاتح والغامق.
هذه الكتل الحروفية المنفذة وفق القواعد والنظم الكلاسيكية التي يجيدها الفنان غنوم، قد تتنامى صعوداً مباشراً إلى أعلى، أو تترنح كلهب يميناً ويساراً، وقد تتبعثر كالغيوم الشاردة هنا هناك، من سماء اللوحة ذات اللون الواحد. وهذه الحروف والكلمات لا يرصفها الفنان بلون واحد، بل يُنوّع في ألوانها، وقد يمد بينها أو تحتها، مساحات لونيّة صماء (طلس) فضية أو ذهبية أو غير ذلك من الألوان الحارة والباردة، وهو لا يتوانى عن استعمال الألوان الإعلانية المتضادة، في سبيل خلق حركة جديدة تدعم حركة الحروف والكلمات، غير الخاضعة بدورها لاتجاه الكتابة العربية المتجه من اليمين إلى اليسار. فالحرف أو الكلمة عنده، تأتي تارة من اليمين إلى اليسار، وتارة أخرى من فوق إلى أسفل، أو العكس. وتارة ثالثة، تراها تأتي من اليسار إلى اليمين، وهي هنا أو هناك، قد تكون ضمن الوضع الطبيعي أو مقلوبة رأساً على عقب.
تكامل الشكل والمضمون
الفنان محمد غنوم يعتمد الحرف العربي والكتابة العربية، عنصراً أساساً في منجزه الفني. به يرسم، وبه بٌشكّل، وبه يلوّن، وبه يقيم عمارة اللوحة بكاملها، هذه العمارة التي تأخذ جزءاً من مساحة اللوحة أحياناً. وتأخذها بكاملها، أحياناً أخرى. في الحالة الأخيرة، يلجأ الفنان من أجل إشادة تكويناته الحروفية، إلى التنويع بثخانة الحرف. بتكبيره أو تصغيره، وقد يلجأ إلى تطعيم التكوين ببعض الزخارف الهندسية، في محاولة منه لتغيير حركة إيقاع التكوين وكسر رتابته وجموده المتأتي من التكرار المبالغ فيه للحرف الواحد، أو الكلمة الواحدة.
أما لناحية المضمون، فالفنان غنوم يرى أن استخدام كلمة ما، ذات دلالة محددة، بأكثر من طريقة في اللوحة الواحدة، وتكرارها بغزارة، فهذا يغني الموضوع الذي ترمي إليه اللوحة.
المتابع لتجربة الفنان الحروفي محمد غنوم، لا بد أن يلحظ التطور الكبير الذي حققته، إن على صعيد التقنية والشكل، أو على صعيد المضمون الذي بدأ يتكامل مع الصياغة، التي ظلت واحدة لديه، منذ بدأ تجربته قبل ما يربو على ثلاثين عاماً وحتى اليوم، وهي تكرار الحرف أو الكلمة، بإيقاعات وألوان وثخانات مختلفة، لتشكل في النهاية، معمار اللوحة المموسق بجماليات الحرف العربي ومطواعيته اللينة، المنسابة، والمعبّرة.
معين لا ينضب
يقول الفنان محمد غنوم أنه أحب الخط العربي منذ الصغر، ودخل معه في حوار لم ينته بعد، وقد رأى في هذا الخط، معيناً لا ينضب من الجمال، كلما ازداد عمقاً كان الاكتشاف مثيراً، حيث يرى في الخط العربي كنزاً جمالياً اغتنى منه الفنان العربي عبر العصور، وخاصة بعد الإسلام. فقد كان لانتشار الإسلام في أصقاع الأرض، دور كبير في انتشار الخط العربي انتشاراً واسعاً، رافقه تنوع في مدارس الخط العربي، إذ ظهرت أشكال وأنواع فنيّة متعددة.
ويؤكد انه يحاول باستمرار أن يكون له مفردات تشكيلية خاصة في تجربته الفنية، فاللوحة .. هذا المخلوق الجميل، يحتاج لعناصر جمالية رفيعة تساهم في تكوينه.
بحث لا يهدأ
ويضيف الفنان غنوم مؤكداً، أنه من خلال الخط العربي يستطيع التعبير عما يريد. يحس بموسيقا الحرف العربي الذي يعطيه ألحاناً سيمفونية متنوعة تطربه وتحفزه على الإبداع، ويرى أن الفنان العربي استطاع أن يوصل فن الخط العربي إلى شاطئ من الجمال والروعة، وهو نزل هذا الشاطئ باحثاً عن مكامن الجمال، لكنه لن يبقى في هذا الشاطئ إلى الأبد، فهناك شواطئ أخرى، وبحار أخرى، ولا بد من الإبحار والبحث عن الجديد دوماً، ذلك لأن الطريق طويلة، فنحن أمام محيط جمالي واسع وعميق، ولا بد من الإبحار والغوص في الأعماق، لاكتشاف كنوز جديدة، في جماليات الخط العربي، ويستدرك مؤكداً، أن أجمل لوحاته هي التي لم يرسمها بعد، وأن الخط العربي فن يملك كل ما يُدهش العالم، ويمتع وما يرفع ذائقة الناس، ويتجاوز مفهوم الزخرفة ليُشكّل العمود الفقري للفن التشكيلي، بل هو فن قائم بذاته، وهو منتهى التجريد، وهو تراث متجدد وبشكل دائم، ولا يقتصر دوره على تزيين الأوابد والقصور، أو يعلو شواهد القبور والآثار فقط، إنه فن يحيا بيننا، وهو أقرب إلينا من بقية الفنون الأخرى، ولا أدل على ذلك من تواجد اللوحات الخطية في كل بيت تقريباً، ليس من باب التبرك أو لأنها تحمل آيات قرآنية أو قولاً مأثوراً، بل لأنه أكثر قرباً من شخصيتنا وفلسفتنا العربية والإسلامية.
منجز متفرد
من جانب آخر، ينفي الفنان غنوم عدم قدرة اللوحة الحروفية على التواصل مع المتلقي الأجنبي، وضرورة ترجمة حروفها وكلماتها ليتمكن من تحقيق هذا التواصل، ويسوق مثالاً على ذلك، لوحته التي حملها إلى أصقاع عديدة من العالم، ونالت القبول والترحاب، وحصدت الجوائز، وحركت أحاسيس الناس وذائقتهم، دون أن يعي معظمهم معنى حروفها، فالمتلقي الأجنبي يكفيه في مثل هذه الأعمال، قراءة الموسيقا الخاصة التي يعزفها الخط العربي والألوان الحاضنة لخصوصيّة الشرق وروحه، وهي قبل هذا وذاك، لوحة متفردة عما أفرزته الحركة التشكيليّة العالميّة من تجارب. بمعنى أنها تختلف عن المنجز البصري الغربي، وهو ما يريده هذا المتلقي، إذ من غير اللائق أن تُرد إليه بضاعته، بهذا الشكل أو ذاك، وإنما يريد ويتطلع إلى منجز مختلف، بنكهة مختلفة، بقدر ما يضرب في عمق التراث القادم منه، يضرب في الوقت نفسه، في إفرازات العصر وتقاناته المتطورة. أي بمعنى آخر: التحقيق المثالي والسليم، لمقولة (التراث والمعاصرة) والتي لا تعني بأي شكل من الأشكال، الوقوف على الأطلال، والتغني بالأوابد، بل استلال روح التراث وعجنه بروح العصر.
أبعد من الزخرفة
وبرأي الفنان غنوم، يتجاوز الخط العربي، كبعد تشكيلي، محدودية الزخرفة، وحشو المكان والمساحة، والحالة التزينيية المقحمة على اللوحة، لأن هذا الخط، يستند إلى فكر ضارب بجذوره في الشخصية العربية. بل يُشكّل العمود الفقري للفن التشكيلي، وهو ليس مقحماً عليه بل أساس فيه، ومدرسة كبرى جامعة لكل الفنون، إذا ما أُحسن التعامل معه، وقادته موهبة فنيّة حقيقيّة، بعيداً عن الحرفة والتكسب والاسترزاق، وكانت فاهمة لقيمه التشكيليّة والتعبيريّة العميقة والبعيدة، وقادرة على وضعه في محرق الإبداع المتجدد دوماً، دون المساس بقواعده وأصوله، ولهذا يجب برأيه، على كل من يخوض التجربة التشكيليّة مع الخط العربي، الإلمام بقواعده الكلاسيكيّة، والتمكن من طرزه وأنواعه، وامتلاك ناصية التعامل معه، إذ كيف لفنان تشكيلي معاصر الانتقال إلى المدارس الفنية الحديثة، كالسورياليّة والتجريديّة والتعبيرية والانطباعية، دون أن يعرف أصول الرسم الأساسيّة؟ وكيف يكتب الشاعر قصيدة حديثة دون أن يعرف قواعد اللغة؟ الأمر نفسه ينسحب على المتعامل مع الخط العربي!!.
عشق اللون
يُرجع الفنان غنوم، الثراء اللوني الموجود في لوحته، إلى عشقه الشديد للألوان التي يحب العيش وسطها، ولا يهاب غناها وكثرتها. فالألوان برأيه، مصدر الحياة الدائم، وهي التي تنشد التناغم الموسيقي لعناصر اللوحة، لذلك يقوم بالعيش معها ومحاورتها، ويستمع بعمق لحديثها الذي يطربه ويمتعه ويصيبه بالنشوة.
ومصدر ألوانه الكون الغني بملايين الدرجات اللونيّة، والطبيعة الجميلة المحيطة به، وهو عندما يرسم تكون الألوان في عرس ... يحضر هذا العرس، ومنه يستمد ألوان لوحته، محتفياً ومستمتعاً بها، في آنٍ معاً!!.
حروفيّة ولكن
وللفنان غنوم، رأي خاص بمصطلح (الحروفيّة) الذي لا زال الجدل قائماً حوله، والبحث جارٍ عن بدائل أكثر ملائمة وتقديراً وتعبيراً، عن هذا الاتجاه الفني العربي الإسلامي المتنامي الحضور في الحيوات التشكيلية المعاصرة، منها المصطلح الجديد الذي أطلق العام الماضي في ندوة بمدينة الشارقة بدولة الإمارات العربية المتحدة وهو (المنصوص والمبصور). فالحروفيّة كما يرى الفنان غنوم، مصطلح أطلقه نقاد غربيون على كل من يقدم لوحة خطيّة، وهو قاصر ولا يعبر عن هذا الاتجاه، لأن كلمة (الحروفية) هنا، جزّأت اللغة إلى حروف، وهذا هو المنطق الذي انطلق منه هؤلاء النقاد، في حين أن اللوحة الخطيّة أكثر شموليّة من اللوحة الحروفيّة، يضاف إلى ذلك أن مصطلح (الحروفيّة) يُقزّم هذه التجربة ويقلل من أهميتها ودورها في الحيوات التشكيليّة السورية والعربية والإسلاميّة.
أخيراً نشير إلى أن (محمد غنوم) من مواليد دمشق عام 1949. درس الفنون الزخرفية في كلية الفنون الجميلة بدمشق وتخرج فيها عام 1976، ثم تابع تخصصه العالي بالفن الإسلامي في الاتحاد السوفيتي السابق. توجه إلى الحروفية منذ بداية تجربته الفنية منتصف سبعينات القرن الماضي، ولا يزال يخوض هذا الغمار حتى اليوم، بكثير من الهمة والنشاط في الإنتاج والعرض. أقام العديد من المعارض الفردية داخل سورية وخارجها، وهو دائم المشاركة في المعارض الجماعيّة، وقد نالت أعماله العديد من الجوائز، ولاقت الاحتفاء أينما حلت.