تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


حوار الوجوه بين الروائي والممثّل

ملحق ثقافي
25/8/2009
إبراهيم محمود

يسعى الروائي جاهداً إلى التعريف بوجوهه الروائية، وبالمقابل فإن الممثل المسرحي حصراً، يواجه مشكلة كبيرة بينه وبين نفسه، لحظة أداء دور مسرحي ما،

واعتبار الوجه الذي يحمله، هو وجه الآخر، وما أكثر وجوه الروائي، ما أكثر وجوه الممثل، لكن ذلك لا يعني أنهما متساويان البتة، بقدر ما يبرز الاختلاف وارداً، بسبب الطبيعة الأدائية لكل منهما وجهياً.‏

وجوه الروائي تصعد إليه من الداخل، من خلال تفعيل قوى إبداعية حية، يكون هو المرجع الرئيس لها، إنه المسئول عنها، أما وجوه الممثل فتأتي إليه من خلال قائمة النصوص المسرحية التي يمثلها، ليكون الدخول في الحالة الوجهية، استناداً إلى مجموعة من العوامل المدروسة، حيث الميل إلى هذا الوجه أو دونه، لا يمكن تجاهله، ولكن وكما أن الكاتب ملزَِم بتقديم وجوه مختلفة، تتجاوزه، باعتبارها وجوهاً حياتية، فإن الممثل بدوره ولكي يؤكد طابعاً من الأصالة الإبداعية النافذة في ذاته الشخصية وما يلي الذات هذه، باعتبارها شخصيته الإبداعية الدائمة التشكل عبر نتاجه، يمثل أدواراً مختلفة تجسّد من جهتها، مشاهد من الحياة اليومية التي نعيشها هنا وهناك.‏

ولكن أي حوار آخر، يقوم بين وجوه كل من الروائي والممثل؟ ثمة معاناة لافتة، يعيشها كل منهما داخلاً وخارجاً، وهي تشكل مجالاً رحباً للدخول في التنوع وإبداع الوجه المؤثر!‏

إذا كان الروائي يشعر في داخله أنه لا يكفُّ عن تمثيل وجوه أشخاصه الورقية، فإن الممثل كالعادة، يشعر أنه يمارس نوعاً من التأليف، إذ ينتقل من تجسيده لوجه دون آخر. إن رهان الأول، هو في مدى قدرته على إثارة القارئ، والوصول به ، إلى اللحظة المنتظرة: يا لوجوهه الدقيقة المتكونة داخلاً، أما رهان الثاني فهو في مدى قدرته على إثارة المشاهد أينما كان، على أن الذي يمثل ليس الشخص المعروف باسم ولقب معينين وإنما من تم تجسيده مسرحياً.‏

جبلَّة الوجوه الروائية والتمثيلية المعنيُّ بسيمياء الوجوه وخطابها الثقافي، لا زال يدرك أبعاد الجملة: الشيفرة التي تفوه بها فلوبير( أنا مدام بوفاري)، الجملة الشديدة الصلة بالحياة، بذات الكاتب الفرنسي ومخاض الإبداع الروحي داخله محيلاً قارئه إلى روايته الشهيرة، ولكن قبل كل شيء، مذكَّراً بمن يكون كثيراً، وهو يتوارى وراء وجه مدام بوفاري، الوجه الأنثوي الذي يشكل مرآة حية لمجتمع حي بصيغ مختلفة في عصره، العصر الذي يدركه هو ذاته وفق معايير ذوقية وتفكرية تعنيه إبداعياً.‏

لا يتوقف الروائي عن التقاط وجوهه من الحياة، مثلما أنه لا يهادن الحياة التي تجري من حوله، عندما يمارس تشذيباً للوجوه الملتقطة، وفي ضوئها يبتدع وجوهاً أخرى مستنطقاً إياها، حيث اللحم يغطي الوجوه مقاربةً ما للوجوه، ومدى انخراطها اللحوح في الواقع، ولكن الوجوه هذه تلتقي على خشبة مسرح رمزية داخل الروائي نفسه، والذي يكون الممثل الضمني والمشاهد، وهذه وظيفة معقدة تضغط عليه كثيراً، لأن لا مجال لأن يسمّي موضوعه في الخارج، حتى لو أنه يستقي نماذج معينة له، مما يراه أو يسمع به، ومن خلال الخبرة اليومية، إنه مجموعة الوجوه التي تتصارع داخله، وعليه أن يخضع لامتحان الوجوه تلك، رغم أنه هو من أوجدها، أن يتمكن من تحرير نفسه من سلطته الذاتية، أن يكون هو وخلافه وبينهما، آخذاً بمجموعة القيم القائمة، وما أكثرها في تشابكات دلالاتها وكأنها قيمة واحدة، وتلك صعوبة كبرى، في مراعاة العلاقة السوية والمرسومة، وكذلك نوعية العنف الممارس، بين كل من الخير والشر، أو الحب والخيانة..الخ، وكل قيمة تضاهي الأخرى مكانة في مسيرة الكتابة، ووحدها الفكرة هي تتم مراعاتها، كما هي الحياة في تشعب مكوناتها وفي وضع كهذا.‏

والممثل حقل طيفي واسع لتلاقي وجوه حياتية، من خلال النصوص التي يقرأها أو التي تقدَّم له، فليس من وجه بغيض وآخر محبوب، إن وجه شايلوك في مقام وجه أنطونيو، وما يضفي قيمة كبيرة على الوجه الممثَّل وهو قرين الشر، هو في اندفاع الممثل نحوه وإظهاره للمشاهد، على أنه يمثل شراً فعلياً، وأظن أن المشكل قائم في هذه النقطة تحديداً، لحظة اندفاع أحدهم صوب وجه، لأنه يعبّر عما يريد، كونه وجهاً خيّراً وهو تمثيل ناقص، وحتى في انتصار ما يسمى بالشر، على ما يسمى بالخير، في حالات دون أخرى، يتطلب الوضع تعزيز الوجه هذا أو ذاك، بتلك الملامح التي ترعِب المشاهد، وتشعره أنه وجه حقيقي، حيث تكمن براعة الممثل، ووعيه لدوره الفني .‏

ثمة غوايات قاعدية لا يمكن نسفها وزحزحتها جانباً: قاعدياً، تحول أحياناً دون منح الوجه هذا أو ذاك، العلامة الوجهية المطلوبة، من خلال علاقة الكاتب أو الممثل بمجتمعه، ومن خلال درجة وعيه لنفسه وما يؤديه رمزياً.‏

من ذلك، غواية المجتمع السياسية أو الاجتماعية أو التاريخية، كما في قراءة الكثير من الروايات التي تفتقر وجوهها إلى الدقة، حيث تم تركيبها استجابة لما هو يومي، أو لما هو عقائدي، فتتعرض خلال فترة قريبة ليس للنسيان وحده، وإنما للذم ضمنياً لأنها تشكل وجوهاً مقحمة، وجوه أقنعة مجوفة، حتى قناعات الروائي، ولكن غواية الاستعراض والاسم المتلفز، والمكانة الجاذبة تكون وراء قائمة الوجوه الطارئة، ولهذا السبب، ودون ذكر أمثلة روائية نظراً لكثرتها، يسهل علينا الاستعانة بأمثلة، ومعها تتراءى أمامنا الوجوه التي تعنيها، كأنها وجِدت لتشكل عزاء لنا حتى مستقبلاً حتى لو أنها تحمل ملامح بؤس أو شر دون تحديد، حيث الحياة تتبدى أو تتشكل حياة وهي في مجموعة تناقضاتها، وبها نعيشها بقدر ما تصيغنا على المسرح المفتوح للحياة.‏

وهذا ينطبق على الممثل الذي يستسهل الدخول في دور، وتقبل الظهور بوجه دون آخر استجابة لما هو مرغوب منه إنما من الخارج، أي تلبية لرغبات تسويقية قد يجعله هذا الظهور نجماً، ولكنه لا يدوم لأن ثمة قضية حساسة هنا، تخص الإبداع الفعلي، هذا الذي يراهن على الزمن، وبالتالي، فإن التجديد في الوجوه وتحدي قناعات المشاهدين بالجرأة الملموسة، دخول في صراع متنوع، لا يمكن توقع ما ستسفر عنه نتائجه سلباً أو إيجاباً، إلا أن الأهم هو في المختلَف وليس في سواه، كونه سوى مفهومه، تعدد كينونته المنقسمة بحكم الضرورة في التغير، وهو النظر بعيداً بحيث تكون المباغتة بوجه دون آخر، وبلعبة مسرحية متقنة دخولاً في التاريخ!‏

لكن من جهة أخرى، لا يمكن نسيان المواجهة النفسية لكل من الروائي والممثل. إذ في الوقت الذي يلجأ الممثل إلى الظهور بمظهر وجهي معين، يكون الجمهور المتفرج بمثابة معيار توازن نسبي له نفسياً حيث الأدوار المختلفة تعني أو تجلو وجوهاً مختلفاً، وهذا الاختلاف الملحوظ في تمثيل الوجوه، قد يبعد الممثل عن وجهه الحقيقي كثيراً، وخصوصاً أكثر حيث ينخرط كثيراً، في تمثيل نصوص بينها غاية التعارض، ولكن يكفيه أنه ينقل الوجوه هذه إلى الخارج، يشحنها بقوة ذاتية تحمل إمضاءته الوجهية الخاصة، ولهذا يستطيع أن يستعيد توازنه، وجهه الذي يعرفه الآخرون بعد فترة، دون أن ينسلخ عن أصداء الوجوه التي تمثَّلها، وربما يكون في مواجهة حالة عصاب تغدو أشبه بطبيعة ثانية في حياته، لأن لا استقرار البتة في حياته، وكأن الوجه الممثَّل هو وجهه الباحث عنه، بينما وجهه الفعلي فيكون الثانوي، وربما لهذا السبب يخشى من الممثل، ومن لاثباته نفسياً، وكأنه هو وليس هو، ولا يُعتد إثر ذلك بوجهه المرئي عبر هويته المحمولة.‏

بينما الروائي، فيكون على تماس مباشر مع وجوهه، وقد يكون عذابه النفسي مضاعفاً هنا، لأنه يواجه نفسه بنفسه كونه عائلة، قبيلة كاملة، مجتمعاً من الوجوه، وهو الملزم بإيجاد المناخ المناسب الذي يبقيها حية ومقبولة من الآخرين. ذلك من خلال كتاب وذوي صيت عاشوا حياتهم نهب صراعات حادة، كانت حصيلة ما قدَّموه من وجوه لم تتوقف عن تأثرها بمستجدات الحياة، وقد تقدمت بعلاماتها الفارقة على وجوه مبدعيها في مجرى اليومي، وهي المبدأ الرئيس للإبداع ودوام جرثومته، فعلى قدر الإبداع يتوارى وجه الكاتب يكون ضحيةَ وجوهه، مثلما أن الأنا لا تعود تبصر حقيقتها الشخصية، إذ تستولد أنوات الوجوه المبدَعة روائياً.‏

وهو حوار من نوع آخر، في صلب العملية الإبداعية في الكتابة والتمثيل معاً، حوار الحدود الملغومة وهو العالم الأمثل للمبدعين، إذ تتشظى وجوههم لتتشكل وجوه إبداعهم اللافت وتدوم !‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية