قبل قرنين أو أكثر، تصاعد الاهتمام بكتابة السيرة الذاتية للشخصيات العامة المؤثرة في الدولة والمجتمع، فيما بعد أخذ الكتاب يهتمون بكتابة سيرة حياتهم، وكانت عبارة عن ذكريات الطفولة ووقائع الشباب والكهولة وتأملات الشيخوخة.
وفي أدب الغرب كتابان مشهوران في السيرة الذاتية، لهما أثر بالغ في تاريخ الأدب والدارسين والمتذوقين، عدا عن مكانتهما الرفيعة في هذا الجنس. الأول كتاب “حياة جونسون” الذي كتبه “بوزويل” والذي يجمع نقاد الأدب الإنجليزي على أنه أعظم ترجمة لحياة رجل في الأدب البريطاني قاطبة، والثاني كتاب “أحاديث جوته مع إكرمان” وقد قال عنه الفيلسوف “نيتشه”، إنه خير كتاب في الألمانية. وكلا الكتابين مثلما هما وثيقان بالسيرة الشخصية، على صلة قوية بالحياة الأدبية، تستعرض فيهما أفكارهم وآراؤهم في أحداث عصرهما.
مع الزمن غلب التنقيح على السير الذاتية، وأصبحت سيرة لحياة يصح أن تقتدى ببذل قدر غير ضئيل من الدأب والتصميم والمثابرة، وصارت أمثولات لقصص كفاح وشقاء تتوج بالنجاح، وبمعنى آخر شكلت السيرة الذاتية وصفة شبه مضمونة للوصول إلى الشهرة والمجد، وكأنها تعقد صفقة مع الخلود.
لكن ما مدى صدقيتها، وإلى أي حد هي حقيقية؟! وربما كان مقتلها في ذلك التبصر في المستقبل، والمغالاة في التضحية، والنبل في السلوك، وللأسف الحياة تنبذ هذا الكم من النضج والرشد والصلاح، عدا أن البشر ليسوا بهذا السمو، وإذا شئنا الحقيقة التي يعرفها الكثيرون؛ لا تكتسب الرفعة إلا من خلال الخطايا والأخطاء. ولقد حالف جورج أورويل الصواب عندما كتب إلى صديقه جون أتكينز: “إن كتابة سيرة حياة صادقة وأمينة أمر مستحيل، لأن كل حياة يُنظر إليها من الداخل ستكون سلسلة من الهزائم المهينة والمخزية إلى حد يصعب تأملها”.
ماذا يعني أن ينظر الإنسان إلى حياته من الداخل؟! يعني ألا يكتفي بالسطح ولا بالمظهر، أو بما فاته أن يفعله، ولا إلى ما يتمناه أو يدعيه، وإنما إلى حياته في العمق، بكل كبواتها وخياناتها، عظمتها ودناءتها، نجاحاتها وخيباتها، فجورها وتقواها. بل وإمعان النظر إلى الهزائم مهما كانت مهينة ومخزية، والرذائل مهما بلغت خستها، وفقدان الضمير، والتخلي عما آمن به، وربما الاتجار بالأخلاق، هذا هو الامتحان الأكبر في مواجهة الذات. إن كتابة السيرة الذاتية الحقيقية، إنجاز شاق ومضني، وقد يفوق قدرتنا على الصدق، إنها ببساطة عمل انتحاري، يحتاج إلى قلم يمتلك جرأة القاتل وشجاعة القتيل في آن واحد.
المقدرة الحقيقية في كتابة السيرة الذاتية، هو أن تكون لدينا القوة الأخلاقية على تأمل حياتنا بجوانبها السلبية والايجابية، الحسنة والسيئة، أحياناً بقسوة، وغالباً بمنتهى الألم.