وما رافقها من أزمات مالية واقتصادية جعلت القوة العظمى الوحيدة التي كانت تهيمن على القرار الدولي،ومعها حلفاؤها غير قادرة على أن تفي باحتياجات شعبها المتزايدة في الداخل, ولا باحتياجات سياساتها الكونية التي صارت تتزايد أعباؤها عليها بصورة مركّبة تجمع بين وعي شعوب الأرض وأممها لخطورة نظام العالم الوحيد القطبية من ناحية, وبين وعي هذه الشعوب لمسألة السيطرة الأميركية على القرار الدولي أنها لم تنتج نظاماً دولياً يحقُّ حقوق الأمم المختلفة في نضالها الوطني التحرري لتحرير المغتصب من أرضها, أو ثرواتها وتولّي تقرير مصيرها بإرادتها الوطنية الخالصة من ناحية أخرى.
وفي هذه الحالة يمكننا أن نقول: إن لعبة الحرية العالمية, والديمقراطية الدولية, وحقوق الإنسان والأوطان في تفرّد أميركا في حكم العالم قد انكشفت لدى المجتمع الدولي, والشعوب الوطنية المناضلة من أجل التحرر الوطني, ولم يعد هنالك ثمة ما يقنع أحداً خاصة حين أخذت تظهر على حقيقتها سياسات أميركا وحلفائها في كل دولة تم احتلالها, أو في كل إقليم ادّعت أنها سوف تساعده على الوصول إلى الحرية والديمقراطية حيث قامت بتقسيم ترابه الوطني, ومحاولة تفكيك الدولة لأن أميركا – ولا سيما في الوطن العربي – لا تستطيع أن يكون لها أي مشروع تحرري يؤسس لتمتين الوحدة الشعبية, ووحدة الجغرافيا والتاريخ, وهي تغضُّ النظر عن المشروع الصهيوني في فلسطين ومستدعيات الأمن والمجال الحيوي لهذا المشروع؛ وبناء عليه فهي تستطيع أن تتجاهل المشاريع العربية الوطنية التحررية, أو المشروع القومي للعرب – إذا كان لديهم ويتحمسون له – وذلك أهون عليها, وأيسر من تجاهل المشروع الصهيوني لكونه مفروضاً بقوة اللوبي الصهيوني في إدارتها, وفي دولتها, وحراك شعبها.
إذاً؛ والحال عليه صار مفروضاً على أميركا وهي تُدْخِلُ العالم في شبكة من العلاقات المعقدة, وتَدْخُلُ معه نتيجة ما أورثته لحلفائها, ولنفسها من أزمات بسبب الإنفاق الكبير على احتلال دول المجتمع الدولي بحجة مساعدتها لإنتاج النظام السياسي المرضي عنه, والغريب أن نموذج هذا النظام غير محدد أميركياً، فكل دولة ستكون ديمقراطية بالضرورة إذا سمحت بتوسيع المجال للأهداف الأميركية فيها, وإذا تمتّعت أي دولة بإرادة استقلال أو رغبة في قرار وطني ذي سيادة ستكون غير ديمقراطية بالضرورة. وهذه السياسة لم تمارسها أميركا على أرض العرب بل مارستها على كافة أمم الأرض وبما فيها روسيا, والهند, والصين, والبرازيل, وجنوب أفريقيا ولن نذكر أحداً من أوروبا لأن أوروبا تمّت السيطرة الأمروصهيونية عليها منذ زمان وانتهى الأمر.
ولو قمنا بأي تحليل علمي سياسي, حتى لو فصلنا العلمي عن السياسي سنجد أن العلم بالاستهداف لأميركا يرشدنا إلى أنها لا تستطيع قيادة العالم كما قال بريماكوف المفكر والسياسي الروسي, وكل حرص لأميركا في عصر اليوم ينصبُّ على إيديولوجية الفوضى المعممة. وطالما هي لم تستطع قيادة العالم فليتفكك إذاً هذا العالم, ولتدخل شعوبه في حروب أهلية داخلية تتحسن معها التجارة الأميركية, والاقتصاد, وتُحَلُّ أزمات أميركا بتدمير أمم الأرض ودولها. ومن الطبيعي أن تنعكس على بلدنا سياسات أميركا والصهيونية كما يرغبان حتى تنسف الأعماق الحضارية لوحدة الشعب وحتى ندخل زمن تحطيم الدولة, وتفجير المجتمع, ونقف على قارعة العصر نتسوّل إدامة الحياة اللّازمة. ولم يعد يعوزنا المثل المطلوب لنا لكي نعتبر, ونحسن التصرف الوطني في بلادنا, وندخل معاً في طيف وطني واحد, وحياةٍ وطنية لا تقبل إلّا المزيد من الحرية والديمقراطية وحقوق الإنسان, حياةٍ ترفض الاستبداد من أي طرف وطني أو مكوّن, وترفض الإقصاء, والاستحواذ, وتفضيل الذات على الآخرين.حياة تعيد السوريين إلى السلام الأهلي, والجيرة المتحابّة, والناس الذين يتمتعون بالعيش المشترك, والحياة التي ترتفع فيها التشاركية الوطنية على أي هدف أو مبدأ, الحياة التي يعود السّوريون فيها – كما كانوا – إلى المزيد من التعاضد, والتآزر, والمساندة, الحياة التي لا يتقدم فيها السياسي على الوطني مهما غلا الاعتبار, فالوطن هو صاحب السيادة الأولى, والشعب هو المالك الأساس لكل مشروع من أجله... هذه المداخل التي حرصت سورية على أن تبقى فيها رغم شبكة العالم الحاضر المعقدة, وانعكاساتها علينا. وعلى هذا المقتضى أخذت بعين الاعتبار – في الحكومة السورية التي أعلنت عن تشكيلها – وزارة المصالحة الوطنية. ولعل المهام المنوطة في هذه الوزارة تمثّلُ السّمتَ الأهم لسورية التي يجب أن تضع المصالحة, والتّصالح الوطني, والتوافق, والعقد الوطني والاجتماعي والسياسي والاقتصادي والأخلاقي المتجدد فوق كل اعتبار... كل الوطنيين اليوم يتطلعون إلى وطن أكبر من الطيف الواحد في السياسة, أو الاجتماع الإنساني, وطن الأطياف المتعددة والمتفاعلة والمتضايفة والمتآزرة في الكلّية الوطنية المنشودة... هذه الوزارة أملنا فيها كبير ولا سيما أن المعارضة السورية هي التي تقودها لنبدأ معاً عصر تبادل الأدوار الإيجابية بين الموجود في النظام, والمعارض له, حيث إن وطن التعددية بكل اعتبار – هو وطن الحرية.