ولم يكن لدى ذلك العامل النشيط أدنى متّسع من الوقت ليهدره في الغمز من قناة هذا والطعن على سلوك ذاك كما يفعل عدد من العاملين الذين يبدّدون وقتهم في إجراء تقييمات اعتباطيّة ما أنزل الله بها من سلطان.
كان يمرّ بذلك العامل ويلقي عليه تحيّة الصباح فيردّ بأحسن منها لكنْ بأدبٍ جمٍّ ، وكانت ابتسامة الرضى والطمأنينة ترتسم على وجه ذلك الإنسان المطمئنّ مشيرة إلى أنه قانع بما قسم الله له في هذه الحياة الدنيا.
ولا شعوريّاً استعاد أبياتاً جميلة من رائعة الجواهريّ في دمشق :
وللبساطةِ ما أغلى كنائزَها قارونُ يرخصُ فيها التّبْرَ والورِقا
تلمّ كأسي ومَنْ أهوى وخاطرتي وما تجيشُ وبيتَ الشِّعرِ والورَقا
أيّامَ نعكفُ بالحسنى على سمرٍ نسّاقطُ اللغوَ فيه كيفما اتذفقا
إذ مسكةُ الربواتِ الخضرِ توسعنا بما تفتّقَ من أنسامِها عبقا
إذ تسقط الهامةُ الإصباحَ يرقصنا وقاسيون علينا ينشرُ الشّفقا
كبر ذلك العامل في عينيه ، وأخذتْ مكانته تزداد لديه يوماً بعد يوم، لاسيّما عندما لاحظ أنه لا يرجو أحداً من رؤسائه في العمل لوضع اسمه في لائحة الذين يستحقّون مكافأة ، وكان على الدوام يفضي إلى زملائه بأنه لا يفعل ذلك لأنه إنما يقوم بالواجب الذي يجب أن يقوم به ، وليس له فضل على وطنه بل كان فضل الوطن عليه كبيراً.
ربّما تعجّب زملاؤه من قوله ، وشعروا أنهم ظلموه ظلماً كبيراً عندما أشاعوا في البداية أنه إنّما يفعل ذلك ليتقرّب من صاحب القرار في المؤسسة ويحظى لديه بمكان يحسده عليه الآخرون ، لكنّهم عادوا إلى الصواب عندما وجدوه يتمثّل في عمله قول الشاعر:
إنّا نجاهدُ كي يرضى الجهادُ بنا ولا نجاهدُ كي يرضى بنا عمرُ
استدعاهُ ربّ العمل إلى مكتبه لأمرين اثنين : أولاً ليتوجّه إليه بالشكر الخالص على كلّ قطرة عرق سالتْ وتسيلُ من جبهته الشريفة كرمى لعيني الوطن المفدّى ، وثانياً ليطّلع على فلسفته الخاصّة بالحياة ، تلك الفلسفة التي تنبئ أنه يرفل في بُردِ الطمأنينة والسكينة والسلام النفسيّ في زمنٍ عصيبٍ تدافع فيه الناس على عيادات الأطبّاء النفسيين ، وأخذت الصيدليّات تبيعُ كميّات هائلة من العقارات المنوِّمة والمسكّنة التي تخوض مع ارتفاع الضغط الشريانيّ صراعاً لا يبدو حسمه متاحاً على المدى المنظور .
استمع إليه وهو يشرح جوهر تلك الفلسفة التي تقوم على الأساس التالي : التفاؤل ظاهرٌ على التشاؤم وساق القصّة التالية:
كان كبير القوم في إحدى القرى يختلف مع أبنائها حول نظرتهم إلى الحياة وبصورة خاصّة موضوعي التشاؤم والتفاؤل.
فقد كان لدى ذلك الكبير فرس يوليها جلّ اهتمامه ، وذات يوم شردت الفرس عن البيت وهبط الظلام ولم تعد ، فحزن أهل القرية وقرّروا زيارة كبيرهم ليعربوا له عن أسفهم وحزنهم لرحيل الفرس فقال لهم : لعلّ ذلك بشير خير فعجبوا من ذلك ، ولم تمض إلاّ أيّام قليلة حتّى عادت الفرس وبصحبتها عدد من الخيول المطهّمة فأدركوا صحّة ما ذهب إليه كبيرهم ، وقرّروا أن يذهبوا لزيارته مهنّئين بالحدث السعيد ،وعندما أصغوا إليه قال لهم : لا تفرحوا لعلّه نذير شؤم ففغروا أفواههم متعجّبين ممّا سمعوا.
وبعد برهة قصيرة من الزمن بلغهم أنّ ابن الكبير كان يمتطي جواداً من تلك الجياد فسقط عن سرجه وكسِرتْ ساقه ، فتألّموا لذلك الخبر وانطلقوا لمواساة كبيرهم والتعبير عن حزنهم ، فاستقبلهم وفاجأهم بقوله : قد يكون كسر ساق ولدي بشير خير ، فباتوا على قناعة أنهم عاجزون عن فهم ما يجول في دماغ هذا الشخص.
وبعد فترة قامت الحرب واستدعِي الشباب القادرون على الدفاع عن القرية ولم يستدعَ ولد الكبير لأنّ ساقه كانت مكسورة .
وتمضي الفلسفة على هذه الشاكلة ويوضح صاحبها أنّ الإنسان قادر على استيلاد التفاؤل من التشاؤم إذا قرّر التغلّب عليه ، أمّا إذا استسلم له فإنّ التشاؤم قادر على قلبِ التفاؤل تشاؤماً.
ودّع ربّ العمل ذلك العامل الرائع الذي أضاف وهو يهمّ بالانصراف : أنا مصرّ على أنّ وطننا سيعود كما كان خميلة الاستقرار والمحبّة والتسامح ، وسيشرق التفاؤل ظافراً ويولّي التشاؤم مذموماً مدحوراً .