يكشفون عن المزيد مما لديهم من كفرٍ وغباءٍ وأميّة عقول.. تلك الأمية التي تهجَأتْ بشاعة أخلاق ممتهنيها, بل وإغراقهم في اقتراف كل ما أحالهم إلى شياطينٍ, لاحرمة لهم أو دين, ودون أن يكتفوا بقطع الرؤوس البشرية ليقوموا أيضاً بقطع رؤوس تماثيلٍ شُيِّدت لرموزِ ثقافتنا العربية. أولئك الذين لم يكن «أبو العلاء» أولهم ولا «محمد الفراتي» آخرهم, وبما تطلَّب منا الرد ولكن, بلسانِ الشاعر «الفراتي» الذي كان أيضاً من الشعراء المتنوِّرين, وممن أقيمَ على فكرهِ الحد..
إنه من طليعة الشعراء الوطنيين المبدعين للقصائد الوطنية. أيضاً, هو صاحبُ مواقفٍ ندَّدت بالاستعمار بأشكالهِ, وحمَّلت الوطن بكلِّ مكوناته, مواقفها النضالية..
كيف لا؟.. وهو ابن الفراتِ الذي لقَّب نفسه به, حباً وخلوداً وفخراً ونهوضاً, وبوطنٍ أهداهُ نفحات من «الفرات الخالد» القصيدة الشهيرة التي نختار منها:
إيــهٍ.. يـــا بلبل الفــراتِ تــــرنَّم
فــوقَ شــطآنهِ وحيِّ الــــــورودا
حيِّ عني الأحرارَ في كلِّ شعبٍ
نـــاهضٍ للعُـــلا وحيِّ الجهــودا
ولد «محمد الفراتي» في مدينة «دير الزور» ولأسرةٍ وطنية كريمة, وضمن مجتمعٍ عربي أصيل. تلقى علومه الأولى في كتاتيبِ مدينته, ليتابع بعدها في حلب, ومن ثمَّ في مصر التي أكمل تعليمه في أزهرها, والتي تفتَّحت فيها قريحته للشعر وخاصة إثر اندلاعِ الحرب العالمية الأولى.
لقد كان لإقامتهِ في مصر, دوراً هاماً في جعله ينتمي إلى تيار العروبة التنويري الذي يكره التعصّب والانغلاق والحقد.. مصر التي لم يغادرها قبل أن يشارك أبناءها نضالهم في الثورة العربية الكبرى.
بعد مصر, توجه إلى الحجاز حيث عُيِّن قاضياً للجيش, ليعود بعدها إلى الوطن, وكأستاذٍ للغة العربية وأيضاً كشاعرٍ مثلما دعا أبناء وطنه للعلم والرقي, دعا من يسعى لتخريب الوطن وفي الوقت ذاته الذي يدعو فيه للإصلاح:
يا طالبَ الإصلاحِ, ويحكَ ما الذي
يثنيــكَ في الــدنيا عــن الإصـلاح
فأعـــنْ على إنهـاضــها ورقـيّـــها
بــالعــــلمِ لا بــأســــنَّةٍ وصـــفاحِ
كل هذا, إضافة إلى مواقفه الوطنية, ودعوته المستمرة لمواجهةِ ومقاومة الاحتلال, كان سبباً في جعل المحتل الفرنسي ينفيهِ إلى بغداد, ودون أن يمنعه ذلك من الاستمرار في مقارعته, وبقصائده التي ما أكثر ما نزفت حزنه ودمعه على دمشق..
أدمشقُ دمعي عن هواي مترجم
إن كنتُ لا أســطيعُ فيــكِ مقـالا
أأقيــمُ في دارِ الســلام وصحبتي
بالشــامِ تلقى في الحــروبِ نكالا
نفسي تنــازعني ولســتُ بمــالكٍ
بـالكــــرخِ إلا دمعـــيَّ الهطَّــالا
ويستمرْ.. يستمرُّ في حزنه على دمشق وأبنائها, وبحنينٍ لم يملك حياله إلا إطلاق الآهات والتنهدات, وبما جعله يمتلئ نقمة على المحتل الفرنسي. ذاك الذي فضح أكاذيبه وعرّى الادعاءات التي قال فيها بأنه سينشر الحضارة والرقي في أرض الوطن.
كانت ســنيناً كسمِّ الموتِ قاتلةً
مدَّنتمــونا بها بــالرقصِ تمدينا
هيهاتَ هيهاتَ أن ننسى نذالتكم
ما لم نكن مثلكم هوجاً مجانينا
إنها حريته وحرية وطنه وشعبه.. الحرية التي وجدها أخلاقاً بعيدة عن الاستعباد والمتاجرة, والتي يصنعها أبناء الوطن لا أولئك الذين كتبهم في «الدناءة شيمة الأنذال».
الحـــرُّ.. يــأبى أن يبيع ضميره
بجميع ما في الأرض من أموالِ
شـــتَّان بين مصــرِّح عن رأيــهِ
حـــرٍّ.. وبيــن مخـــادعٍ ختَّـــالِ
يرضى الــدناءة كلّ نذلٍ ســاقطٍ
إن الــدنــاءةَ شــــيمة الأنــــذال
أخيراً.. يعود «الفراتي» إلى وطنه ليستقر فيه, وبعد خمس سنوات من إقامته ببغداد, وبعد أن قضى حياته يجول ما بين الدول العربية, ودون أن يترك نوعاً من أنواع الثقافة إلا وخاضه, ليعمل بعدها في وزارة الثقافة, ولمدة أربعة عشر عاماً وكمترجمٍ للغة الفارسية..
هذا هو.. موسوعة الفرات وشاعر النهضة العربية, المتبصّر في أمور الثقافة والحياة والذي كان يجيد وبالإضافة إلى العربية, التركية والفرنسية والفارسية.
هذا هو.. ومذ كان أيضاً, فناناً وفلكياً ورساماً سورياً وفراتياً.. الفرات الخالد الذي سيبقى يحمله بين ضفافه وإلى ماشاءت مياهه ترتّل أبجديته الشعرية..