وهذا ينعطف على تضمينه خطابه في القاهرة 4/6/2009 ، إشارته الزاخرة بالدلالة إلى الرابطة الوثقى التي لا انفصام بها بين أميركا و«إسرائيل».
فما طبيعة هذه الرابطة؟.
وكيف نقرأ في سياقها القرار الإسرائيلي الخاص بمحو أسماء القرى والبلدات والمدن العربية والفلسطينية المحتلة؟.
لاريب في أن المغالاة في الرهان على تباين سياسي بين واشنطن وكيان العدو الصهيوني، كالقراءة البتراء لدى بعض العرب لصراع الهوية بين المشروعين القومي العربي والصهيوني، إنما تنكأ جرحاً في مقاربة هي الأخرى بتراء لجذور الصراع في طبيعته وسيرورته وآفاقه، وامكانات حسمه بالسلم أو بسواه.
قرار تهويد الأسماء العربية حلقة في سلسلة تدابير صهيونية مستمرة منذ 1948، أملاها البناء الإسرائيلي على مقتضى صراع الوجود، والذي ينصرف إلى أن الهويتين العربية والصهيونية متضادتان على نحو تنفي كل منهما الأخرى، وهذا أصل الرفض الإسرائيلي لسياسة تنحو نحو دولة فلسطينية، فهذه تنفي «إسرائيل» وهنا الأهمية القصوى لمصطلح المتداول في الإعلام، وعلى ألسنة الناس، أما الخطورة في المصطلح فإنها تكمن في قدرة أحد طرفي الصراع على توليف منظومة مصطلحات تخدم سياسته وتصديرها إلى الطرف الآخر، لتنزرع في وعيه، ولتنشئ مفاهيم وطرق تفكير ترتد وبالاً عليه.
وفيما يخص الصهاينة فإنهم، وهم ينجحون في زرع مصطلحهم في الساحة العربية، إنما يجدون ضالتهم المنشودة للفوز في صراع الهوية، ولخلق بيئة ثقافية- سياسية حاضنة لتراجعات عربية مدمرة لذهنية مقاومة الغزاة محتلي الأرض.
هناك مثلاً مصطلح «النزاع» الذي يستدعي مفهوم الخلافات الحدودية، وليس الصراع على الهوية الفلسطينية التي يعدها الإسرائيليون نفياً لهم.
وهناك مصطلحات تصم المقاومة بالتطرف والإرهاب، والقائمة تطول، ولكننا نتوقف عند تاريخيةمصطلح «الشرق الأوسط» الذي يجري تداوله في أدبيات العرب السياسية والثقافية، رسمياً وشعبياً، وبالتدريج منذ 1948، فقط لاغير.
هذا المصطلح مستورد طارئ إلى الذهنية السياسية العربية دون تحديد جغرافي، بل هو مشحون بعدمية قومية فهو يشمل تركيا وإيران وحتى باكستان وبلدان شرق المتوسط العربية ومصر، من دون السودان واليمن وعمان.
والتراتبية في المصطلح، هي أنه يقع بين شرقين: أدنى وأقصى، قرينة حاسمة على انبثاقه من البناء الثقافي للمركزية الأوروبية الاستعمارية، منشأ الحركة الصهيونية.
ولن نجادل في أن المركزية الأوروبية مهيمنة على بعض المدارس الفكرية العربية التي يزدهر في شيوعها الأساس الرخو في مقاربة خطر المشروع الصهيوني، المقاربة التي تبتره عن أصله الاستعماري- الإمبريالي- والواقعة في مصيدة المصطلحات الزائفة والمزيفة لصراع الهويتين والمصير.
لنلاحظ في تراتبية هذه المشارق: الأدنى والأوسط والأقصى، إنها خط في اتجاه وحيد يبدأ من أوروبا الرأسمالية «المتطورة» إلى إمبريالية، وهو خط يعادل طريق الهند ويرثه.
ولنلاحظ أيضاً أن «شركة الهند الشرقية»، وهي شركة إمبريالية بريطانية كانت في 1840 النواة الصلبة للحركة الصهيونية، المولودة في رحم «التطور» الرأسمالي إلى إمبريالية.
ولنلاحظ ثالثاً أنه في رحم هذه الشركات فوق القومية، ولد مشروع حفر قناة السويس لاختصار الوقت في الطريق إلى الهند.
والأدهى أنه في رحم هذه الشركات ترعرع مشروع تطعيم القوات المسلحة الأوروبية بترحيل اجتماعي، في هجرات جماعية لمدنيين وعائلاتهم، للاستيطان والاستثمار البالغ الإغراء في الجنوب الإفريقي وشرق المتوسط رغم أنف أهل البلاد الأصليين.
فالذين توجهوا إلى الجنوب الإفريقي خليط من القوميات الأوروبية للاستعمار.
أما الذين توجهوا إلى شرق المتوسط، كذلك للاستعمار لالسواه، فقد كان جلهم من اليهود.
وقد ارتسم، في الموجات الأولى للهجرات الجماعية إلى الجنوب الإفريقي وفلسطين، أفق حل رأسمالي لمعضلتي البطالة والتزايد السكاني المتسارع، ولحل رأسمالي لمعضلة المسألة اليهودية التي كانت ضاغطة في الذهنية الثقافية الأوروبية السائدة، فتوضع التهجير محل «الفيتو» في الاستجابة لرغبات شعبية أوروبية، ولرغبات يهودية شعبية في آن معاً، في مناخ من الكراهية المتبادلة المنتجة لـ «الفيتو» ولفلسفة الهجرة اليهودية الجماعية إلى فلسطين.
في هذا المناخ تبلور رأي مثقفي الشركات فوق القومية في مؤتمر بال بسويسرا 1897، على اختيار فلسطين مقصداً للهجرة الجماعية، وليس الأرجنتين، ولا كينيا، ولا الجنوب الإفريقي، درءاً لإعادة إنتاج «الغيتو» وجواره في المستعمرات.
والذي حدث فيما بعد، وهنا منطلق اللهاث الصهيوني وراء المصطلح، هو أن حركة الترحيل الاستعماري إلى فلسطين وجدت مظلة شرعيتها في السطو على تاريخ لليهود في الديار العربية فاستولدت بنياناً من المصطلحات كأرض الميعاد، وإعادة بناء الهيكل.. الخ، في حين أن المهاجرين إلى الجنوب الإفريقي، نظائر اليهود في موجة التدفق الشعبي الرأسمالي للاستعمار، وجدوا شرعيتهم في الانسلاخ عن البلدان الأوروبية الأم، عبر مصادمات انتهت بحرب البوير 1903، والتي استقلوا فيها عن قومياتهم الأوروبية: الألمانية والبريطانية والهولندية والبلجيكية، استقلالاً ينصرف إلى الاستئثار بثروات المستعمرات.
ولذلك ليس من المصادفة أن الحركة الصهيونية في 1948 استنسخت مفهوم «حرب الاستقلال» عن بريطانيا بالذات، المركز القائد في عالم الرأسمالية المتطورة إلى إمبريالية.
siwan.ali@gmail.com