ليس نديم محمد علامة عابرة في مسيرة الشعر في سورية .. بل هو علم من أعلامه وممن تركوا بصمات لا تمحى في تلك المسيرة... عاش أخريات حياته عيشة متقشفة تصبغها الفاقة وظلت نفسه رغم ذلك: قحَّامة وقانعة بما هي فيه ومتعالية في الوقت ذاته على صغائر الدنيا وتفاصيل خلاف الناس على الأشياء الصغيرة التي لا ترقى إلى مستوى اهتمامه.
وليس أدل على ذلك من أنه نشأ في أسرة ذات وجاهة اجتماعية تشكل الزعامة في منطقة جبلة أهم مظاهرها وكان أهله رأس هذه الأسرة إضافة إلى ما عندهم من أراض وأتباع، بيد أن شاعرنا: عاف هذه الأمور كلها وتعالى عنها ثم سافر إلى فرنسا للدراسة.
وحين عاد إلى «عين شقاق» و «شقرا» في منطقة جبلة باع كثيراً من أراضيه وترك المنطقة ليسكن في مدينة طرطوس ويقضي بقية حياته فيها بعد أن أمضى عدة سنوات في العمل الوظيفي.
كانت الومضات النضالية أحد أبرز ملامح نديم محمد منذ وقت مبكر، فعافت نفسه ما اصطلحت عليه القبائل والعشائر من صراعات في الحياة النيابية في تلك المنطقة من محافظة اللاذقية، فترك لهم دنياهم وصراعاتهم وتفرغ لحياته الخاصة وإبداعاته الشعرية.
بعد مضي فترة ليست بالطويلة، تخلص الشاعر من إرثه وأراضيه «كما قال أهله أكثر من مرة» وصرف في حياته الجديدة ما درت عليه من مردود مادي وعاش في طرطوس ضمن حدود التقشف والقناعة بالقليل.. وله مع رفاقه وأصدقائه من المسؤولين الرسميين: حكايا تروى فيها من الظرف والجرأة الشيء الكثير.
وإذا كان لابد من عود على بدء، فقد نشأ نديم محمد في منطقة وارفة خضراء تكلل جبالها المتاخمة: مساحات واسعة من الحراج والغابات الطبيعية، وتخيم عليها سماء صافية تتلألأ نجومها وتومض في الليالي الداجية، وعلى مدارج «عين شقاق - شقرا» نما الفتى وترعرع تلكؤه عناية أسرية غنية، فوفر له ذلك الجو من الهدوء وجمال الطبيعة وعناية الأهل: كل مقومات الشاعر الرقيق والنفس الوثَّابة.
ويوماً إثر يوم كانت تلك المكونات تنحت في شخصية الشاعر أولى بوادر نبوغه، وتؤطر شخصيته التي كانت تفيض عليه ببوارق الإبداع الشعري، وبملامح تلك الطريق التي اختارها كمنحى جديد لحياته: شاعراً وإنساناً.
ولعل جمال تلك المنطقة ومكوناتها ظلت دائماً منبت النبوغ العلمي والأدبي والشعري منها بوجه خاص إذ أنجبت قبل نديم محمد: أستاذ الأجيال وعلم الشعر العربي المعاصر الشاعر الكبير بدوي الجبل الذي قال عنه شاعرنا نزار قباني:
«هو آخر سيف يماني معلق على جدار الشعر العربي».
يتسم شعر نديم محمد بمتانة السبك وقوة تعبير الألفاظ والوفاء للشعر العربي عموماً، وبتنوع الأغراض التي يأتي في مقدمتها الأغراض الوطنية والقومية إلى جانب القضايا الاجتماعية والوجدانية وسواها وكغيره من الشعراء كانت مسألة وحدة الموضوع هي الأساس، فكثيراً ما يتجاوز وحدة البيت إلى فضاء القصيدة وتتسامق إلى جانب ذلك المسائل الوجدانية والآلام والإبحار في العوالم الذاتية والعوالم الإرثية العربية التي تفخر بها تلك المنطقة.
ونديم محمد بين هذا وذاك شخصية شعرية مبدعة تتوالد بين يديه المعاني وتعبيراتها العميقة مبتعداً عن الشخصانية البحتة إلى فضاءات «الكلية» وشمولها ويحمل بين جوانحه - خلال ذلك - قلباً نابضاً وروحاً وثابة: وبتعابير تتجاوز أحياناً حد المألوف وتقفز من فوق الأدبيات الرسمية المجتمعية إلى صور وتعابير لا تضع بالحسبان ذلك المألوف الذي يراعي المقامات والرتب العامة!! ولذلك لم تكن تعنيه مسائل المكانة العائلية وترتيبها الاجتماعي ومستقبله في هذا الاعتبار رغم أنه أولاً من صلب تلك العائلة ومكانتها.
وثانياً: هو المتعلم المثقف فيها والذي لايجاريه آنذاك أحد منها.
وثالثاً: إنه شاعر علم تعرفه منابر الإبداع وتعلي شأنه.. أي إنه باختصار كان مؤهلاً لتولي مراتب فيها، بل وحمل لواءها في مجتمع تعنيه جداً آنذاك تلك الاعتبارات.
ولأنه كما قلنا يملك تلك الروح وذلك التمرد على بعض قضايا مجتمعه: فقد آثر السكن بعيداً عن منطقته تلك حيث عاش وقضى في طرطوس تاركاً لقومه دنياهم واعتباراتهم مؤثراً بعده عنهم، ويتلف أهم ما كان المجتمع يحرص عليه: الثروة والأرض والجاه!!
ورغم أن حياة هذا الشاعر كانت زاخرة بالرفاق والأصدقاء والأصحاب: فإنه لم يسع إلى مكسب أو منصب أو أي شيء مطلبي سوى الصدق والصحيح حتى إن رفاقه ومحبيه وهم في مقاعد السلطة كانوا يطلبون رضاه ويسعون إلى كسب وده لعلهم يتجنبون في ذلك سلاطة وجرأة قصائده وأبياته!!
ومن هنا عاش تلك الحياة البسيطة بعيداً عن الأضواء وانزوى في بيته ناسياً كل ما حوله سوى قصائده التي تناقلها محبوه ومريدوه والناس أيضاً.. وما أزال أذكر أن الراحل محمد الماغوط عرفني عليه في مقهى الهافانا أوائل الستينيات.. وكان يومها قد أضاع في سيارة أجرة: مجموعته الشعرية وهي الجزء الثاني من ديوان «آلام» وظل يبحث عنها طويلاً دون جدوى فعاد إلى طرطوس يغمره حزن كبير ليبدأ تسجيل ما تسعفه الذاكرة من أبيات وقصائد هذه المجموعة ثم أصدر ما تذكر في مجموعة صغيرة اسمها «آفاق» منوهاً في بدايتها بأنها بقايا ما علق بذاكرته من الأشعار الضائعة.
لقد قامت وزارة الثقافة وبعض الجوانب الرسمية ببوادر طيبة في تكريم الأدباء والمبدعين في ندوات واحتفالات تكريم: أعطت أولئك بعض حقوقهم الواجبة... ونديم محمد واحد من أبرز من يستحق ذلك ولو بإعادة طباعة إنتاجه الشعري ومسيرة حياته.
وعلى الرغم من أن الساحة الأدبية والثقافية شهدت بعض المحاولات الفردية في هذا المجال والتي ألقت الضوء على جوانب من حياته وأشعاره كما فعل الأديب جميل حسن إلا أن ذلك لا يقاس بجهود وزارة أو منظمة شعبية كاتحاد الكتاب.. حين ينهض بعضها أو كلها بهذا العمل الجليل طباعة وتوزيعاً يستحقه شاعر «آلام» وما المانع أن تقام ندوة عنه تكريماً لإسهاماته الكبيرة في الحياة الشعرية السورية حيث يتناول الباحثون أو المشتركون فيها: حياة نديم محمد وخصائصه الشعرية وهي كثيرة بل قيمة قصائده في الشعر العربي في سورية وغيرها.
إن شاعر «آلام» يستحق هذه البادرة التي لم تغب عن أذهان المسؤولين في وزارة الثقافة وإن كانت قد تأجلت قليلاً!!