و على خلاف باوند كان بوخيس، الذي كتب أولى قصائده « ترنيمة البحر « وفق أسلوب ويتمان، من أكثر الشعراء حباً و تأثراً به. إذ كان ترجم هذا الديوان و قدّم له.. و يعرف عنه إضافةً إلى كونه شاعراً و ناقداً اهتمامه بالترجمة من اللغة الإنكليزية إلى اللغة الإسبانية.. ومؤخراً تُرجمت مقدمته لـ (أوراق العشب) إلى اللغة العربية.
يُعرف عن ويتمان أنه أمضى قرابة الأربعين عاماً يُعيد و يعدّل في ديوانه هذا.. الذي صدر له عدّة طبعات كانت آخرها في سنة وفاته 1892م.. أمّا أولاها فتعود إلى عام 1855م.. و بعد العديد من المحاولات للشاعر تمكّن على إثرها من إيجاد مطبعة متواضعة في بروكلين.. فكانت ولادة مجلّده الشعري الأول بخمسٍ و تسعين صفحة مشتملاً على اثنتي عشرة قصيدة و بعنوان (أوراق العشب).. ليصل بعد إضافات و تنقيحات سنوات العمر المديد إلى الأربعمئة صفحة.
ما يزيد من أهمية هذه المجموعة.. فضلاً عن قيمتها الفنية.. و أسلوبها الفريد الذي خالف به السائد من طرائق شعرية آنذاك.. هو جملة الظروف التاريخية التي سجلت تطورات عدّة شهدتها الحياة الأميركية في تلك المرحلة.. إذ بعد صدورها بسنوات قليلة، عام 1860 م، نشبت الحرب الأهلية.
ولد الشاعر الأميركي والت ويتمان عام 1819م، بإحدى ضواحي نيويورك، في أسرة كبيرة، كان له ثمانية أشقاء.. لم يتسنَ له إكمال تعليمه فحصّل تعليماً بسيطاً. بدأ العمل في مهن كثيرة، منها عمله كمنضد للحروف في مطبعة.. ثم أصبح معلّماً في مدرسة ريفية.. و بدأ نشاطه الثقافي يظهر في تلك الفترة، لينتقل عام 1938 م من مهنة التعليم إلى مهنة الصحافة. حاول إصدار صحيفته الخاصة لكنه أفلس و أغلقها.
خلال نشوب الحرب الأهلية، يُذكر أنه تطوع للعمل ممرضاً في المستشفيات، و بعد أربع سنوات أمضاها في جبهات القتال، حصل على وظيفة حكومية في وزارة الداخلية بواشنطن.
شهدت حياة ويتمان الشخصية الكثير من المصائب، أبرزها إصابته بشلل نصفي بسبب جلطة دماغية عام 1873م.. فخسر عمله في صحيفة الواشنطن بوست.. لتصبح بعدها عيشته معتمدةً على الريع الذي يحصّله من كتبه و على تبرعات الشعراء الأصدقاء الأميركيين و الإنكليز.
فنياً.. ابتعد ويتمان عن التفعيلة المعروفة في الشعر الإنكليزي التقليدي.. و عن الوزن و الشكل الشعريين المعتادين في زمنه.. لينفتح بذلك باب الجدل حول ما إذا كان يُعتبر نتاجه شعراً أم لا.
و يعترف بورخيس في تقديمه ل(أوراق العشب) أنه كان تجلياً لعبقرية خارجة عن المألوف.
دون أن ننسى أن بورخيس عاش ما بين عامي (1899 - 1986 م) أي بعد ما يقارب القرن من وفاة ويتمان.. حيث كانت قد اختلفت المعايير النقدية و بُنيت مفاهيم أدبية تواكب التجديد الذي طغى على روح الشعر.
و الخلاصة.. تكشّف القيم الجمالية الإبداعية الحقة التي تمتّع بها شعر ويتمان.. بعد أن نال الكثير من الهجوم و النقد السلبي في زمنه.
في تقديمه، يربط بورخيس الحدث التاريخي، الذي كان نقطة انعطاف في التاريخ الأميركي، بالتجديد الذي أوجده ويتمان في قصائده، يقول بورخيس:
(وقد فكّر بأنّ الديمقراطيّة حدث جديد، وأنّ التّغنّي بها يتطلّب أسلوباً جديداً أيضا. وكنت قد تحدّثت قبل حين عن الملحمة. وفي كلّ النّماذج الشّهيرة التي كان الشابّ ويتمان على اطلاع عليها والتي كان يصفها بالإقطاعيّة، كانت هناك شخصيّة مركزيّة - أخيل،أوليس،أيني، رولان، السيد، سيغفريد، المسيح - والذي مقامه أعلى من مقام الشخصيّات الأخرى، والتي لم تكن غير شخصيّات عاديّة». هذا التفوّق الذي يحظى به البطل، فكّر ويتمان، يتماثل مع عالم انهار وسنعمل على انهياره، ألا وهو عالم الارستقراطيّة. لذلك فإنّ ملحمتي لا يمكن أن تتماثل مع هذا النّموذج. لا بدّ أن تكون متعدّدة،عليها أن تعلن عن المساواة المطلقة والتي لا مثيل لها بين البشر،أو أن تفترضها».هذا القرار العنيد يبدو وكأنه يقود حتما إلى خليط لا متجانس وفوضويّ. ولكن ويتمان الذي كان عبقريّا،تحاشى هذه المجازفة بمهارة فائقة. وقد أنجز بسعادة التّجربة الأكثر جرأة والأشدّ طموحاً والتي لم يسجلها التاريخ الأدبي من قبل أبداً).