تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


غي دو موباسان .. الأمل فخ والمنطق أيضاً

ملحق ثقافي
2012/2/21
د. عبد الهادي صالحة:يتمتع موباسان– الأستاذ الذي كرس نفسه لفن القصة – بثروة أدبية متميزة، إذ اعتبره النقاد غير الفرنسيين القاص الفرنسي الوحيد

دون منازع، وفي الوقت نفسه مؤسس مدرسة دولية- من جوزيف كونراد إلى إسحاق بابل؛ حيث ينتسب كتاب عديدون إلى منهجه– الذي لم تقدره فرنسا حق قدره، ونظرت إليه منذ عام 1970 ككاتب طبيعي موهوب تربى في ظل غوستاف فلوبير وإميل زولا.‏‏

أراد موباسان أن يصبح كاتباً شهيراً، ينبذ الفقر بمال ينفقه ويضيعه على ملذات مترفة، وبذلك يستقطب ود وحب النساء جميعهن، ولذلك عزف عن الزواج لأنه بنظره يقضي على الإبداع، وانصب على الكتابة، فكتب خلال اثني عشر عاماً مجموعة قصصية وست روايات وثلاث مجلدات من حكايا الرحلات ومئات الأخبار... كل هذا في وسط حياة مدنية تتخبط بالحوادث. وربما كان سبب هذا النشاط المحموم هاجسه بنهايته المبكرة... كانت أمه تشجعه وتهتم به منذ بداياته الأدبية الأولى، وتوصي به لصديقها غوستاف فلوبير، وكانت تجمع له حكايا ليستخدمها كمواضيع لقصصه. وعندما بلغ الثلاثين،‏‏

‏‏

اكتملت ثقافته تقريباً، وقد ترك موت أستاذه فلوبير المفاجئ أثراً مؤلماً قطع المعين الذي يمده ويوجهه.‏‏

نشر موباسان رواية «بول دوسويف» في 1870 التي فرضته كاتباً متميزاً أمام الجميع. تروي هذه الرواية قصة امرأة بغي يقنعها أناس شرفاء، لينقذوا حريتهم، بتسليم نفسها إلى رجل بروسي، ومن ثم ينبذونها من مجتمعهم.... في الحقيقة إن نجاح «بول دو سويف» يدشن العمل الصحفي لموباسان كمدون أخبار ذي شهرة، شارك في مجلة «Gil Blas» وفي «Le Gaulois « وفي LEcho de Paris» ثم في «Figaro Le»، عنده إذاً خبرة بعالم الصحفيين ومدوني الأخبار والمخبرين الصحفيين الذين يصفهم دون مجاملة.‏‏

ملاحظات دقيقة، أفكار سطحية، أسلوب واضح سلس، إنشاء حسن التوازن، تلك هي الميزات التي ينسبها التقليد الجيلي إلى إنتاجه، لكن هذه الكتابة التي تتجاور فيها العفوية والسهولة يحركها شعور مأساوي... هذا الإنتاج يشهد بأهميته الكمية على تحول تاريخي؛ حيث تبدو شخصيات قصصه ضحية المصير نفسه، وكأنها قابلة للتبادل فيما بينها، وهذه علامة نهاية التيار الفردي للقرن التاسع عشر.‏‏

‏‏

مع موباسان تظهر في الأدب الفرنسي غنى مواد الحكايا، لكن المواضيع نفسها تتكرر دائماً: استحالة الاتصال بين الناس، الحب التعيس لكائنات مولعة بالمثال وأخرى حبيسة حواسها، تفكك العائلة، الحرب، الجنون، الموت، والنقد القاسي لإنسانية أنانية، قليلة الذكاء ومنافقة، والأوساط هي نفسها تقريباً: الريف النورماندي الذي يقطنه فلاحون وريفيون نبلاء، وباريسيون حيث يتجاور الناس دون أن يعرفوا بعضهم وهم موظفون صغار وسيدات محترمات وبغايا. ولا تختلف الشخصيات إلا حسب انتمائها إلى طبقة اجتماعية: أغنياء، فقراء، نبلاء، برجوازيون، نساء ضعيفات، أزواج مخدوعون، عشاق متطلفون... ومآسيهم التافهة لا تكفي لتميزهم ولتفردهم عن الآخرين بصفات خاصة.‏‏

‏‏

وهكذا تتراكم الحكايا في سلسلة يمكن مدها إلى ما لانهاية: والدليل على ذلك فقدان المجموعات التي تحتوي كل واحدة منها على إنتاج الأشهر التي سبقتها. ففي «الصديق الجميل» التي تحكي قصة صعود «رجل وغد» يرسم لنا موباسان لوحة كبيرة للمجتمع الباريسي. لكن في «جبل أوريل»، «بيير وجان»، «قوي مثل الموت»، «قلبنا» يصور لنا الكاتب قلوباً مدمرة يدرسها بدقة، تبدو وكأنها تريد أن تنافس نفسانية بول بورجيه».‏‏

حكايا اليأس‏‏

عاش موباسان مثل كل أبناء جيله متأثراً بتجربة الحرب، وخاب أمله في عصر تستقر فيه القوة المالية، لا يستطيع أن يفلت من التشاؤم ويبقى مخلصاً لـ «جمالية الملاحظة» عند فلوبير. يقتنع موباسان أن الأمل فخ، هذه الأطروحة التي يكررها بعناد في حكاياته المرتكزة في معظمها على المخطط نفسه: يأمل الإنسان بالتحرر، بالخروج من مجال مغلق، أو من وضع خانق، على الأقل يوم واحد، ثم عندما يظن أخيراً أنه يتنفس يعود الملزم ويضيق خناقه عليه بوحشية، وإذا لم ينته الأمر بالموت يجد الإنسان نفسه مقيداً بالتزام مخنوقاً بالديون وغارقاً بالحزن والكآبة. هذا القدر الموجود والحاضر في مؤلفات موباسان والذي يمحو إرادة الفرد يبقى غير محدد: لا يمكن فهمه مثل سلطة المال، ولا يمكن اختراقه مثل قوة الدوافع التي تتصرف بطرق لاواعية، بيد أن هذا القدر اللاعقلاني -حسب رأيه- يعقلنه كاتب يسعى أن يكون واقعياً.‏‏

‏‏

إن تشاؤم موباسان لا ينتج فقط من ملاحظة المجتمع الذي فقد فيه الإنسان كل سيطرة أو تأثير على واقع اقتصادي لم يعد قادراً على التكيف معه، بل يجب عليه أن يكتفي بإرضاء شهواته الوقتية أو بطمع دنيء. كتب موباسان إلى فلوبير في حزيران 1878 يقول: «تمر في خاطري أفكار واضحة أن لا جدوى من الحياة، وأن الخلق يعاني من شر لا واع، وأن الفراغ يلف المستقبل «مهما يكن»، ما يجعلني أشعر بلا مبالاة تجاه الأشياء جميعاً»...‏‏

غالباً ما نجد في كتابات موباسان عالماً مفككاً مفتتاً أو ململماً في قصصه السبع... لقد احتقر موباسان الجنس البشري... فالحيوان الإنساني من بين كل الحيوانات هو أبشعها: «الشخصيات التي يخلقها والتي تعاني من عجز شبه تام للاتصال فيما بينها تهذي وهي محرومة من خط ناقل مسير، تعيش عبر متاهة عالم عدواني وعبثي وبدائي وتجتر باستمرار بقايا سأم رومانتيكي يسبب لها غثياناً وجودياً حقيقياً». في الواقع، حياة هذه الشخصيات متقلبة ومائعة مثل العالم الذي تعيش فيه. إنها تخاف من الخوف، كما يقول أحد أبطال قصصه، زد على ذلك أن الأطروحة الكبيرة لنتاج موباسان التي تقول إن – الأمل فخ – تساندها أطروحة فكرية - المنطق فخ - والتي يتطلب البرهنة عليها حكايا يمكن تشبيهها إلى دراسات في اليأس العقلاني.‏‏

‏‏

يرسم موباسان في كتاباته الحب وانفعالاته وثوراته وآلامه؛ إنه يعبر عن جوهره الخالد في ملاحظة حديثة جداً تنبئ نوعاً ما بالتحليل النفسي. كما أن موباسان يعطي في كتاباته مجالاً واسعاً للرغبة والشهوات الحسية الني تبدو له كعامل حاسم وجوهري في الحب. إنه يدرس- بوجه خاص – مأساة الزوجين، والخلافات الأخلاقية والجسدية التي يتصارع فيها هوى المرأة ونزواتها مع طيش وعبث وتفاهة الرجل. هذا الرجل ليس جميلاً في قصصه ورواياته ومسرحياته، بل هو خليط من الغرور والخفة والضعف والفظاظة.‏‏

يعرض موباسان الواقع بكل أمانة، وتمتاز قصصه ورواياته بدقة الملاحظة والبساطة القوية للأسلوب، غير أنه في كل هذا لا يوجد فلسفة عميقة؛ لقد اعتنق موباسان في الوسط المحيط مذهب الانسياب للمظاهر. إنه يرى الإنسان بشعاً بما فيه الكفاية، قليل الذكاء، متوحشاً في ميوله وشهواته، متطلباً ومتشدداً في أنانيته، قوياً أو مختلاً حسب طبعه وظرفه وبقوة أو بدهاء، يركض باستمرار وراء اللذة العابرة.‏‏

يتكلم موباسان في كتاباته عن الإنسان بكليته، إنه يتكلم عن أجساد، لكنه يتكلم أيضا عن أنفس وأرواح. ولا يبدي رأيه حول سبب الظواهر، ولكن يكفيه أن يتفق كل الناس على أنظمة الوقائع المشار إليها بأسماء الأفكار والرغبات والمودات والإرادات. إنه يعطي للطبع مكانه ولكن ليس لديه مطلقاً أي ميل للدراسات النفسية الدقيقة، ولا يذهب أبداً إلى حد كتابة الرواية النفسية الصرفة. إن طريقة موباسان هي في الحقيقة طريقة توفيقية، يعبر من خلالها عن القوى والدوافع والحوافز والقوى الخاصة للوعي عن طريق مظاهر الحياة بالحركات وبالأفعال. كل شيء عنده واقعي وصلب. ويمكن القول بأن لغة موباسان هي لغة وجودية، الإنسان «مهمل» في عالم لا صلة له به، يعني في عالم الفراغ والفوضى والعدم. إنه لا يصور الحياة بل يصور الرعب، الضيق، الحقارة، الموت الخفي للحيوان، الإنسان الفاشل في تحقيق سعادته.‏‏

لقد رسم موباسان في أدبه الشفقة الواسعة في عالم - حسب رأيه - غير محكم عبثي ودون غاية، ملئ بالأفخاخ. لقد كتب موباسان أسطورة عصره، تلك الأسطورة التي لا تزال مليئة بالمعاني الكبيرة. ويمكننا أخيراً القول مع برانسيس مارسي باريباترا: «موباسان هو كاتب رومانسي متنكر بزي واقعي. هذا هو مفتاح الحزن المذهل الذي تنضح به مؤلفاته».‏‏

باريس‏‏

يرسم موباسان ببراعة عظمة وانحلال باريس ومجتمعها المتفسخ بأخلاقه المنحطة... باريس تلك العاصمة الأسطورية للنجاح هي أيضاً في مؤلفاته عاصمة الرذيلة. إن تألق وروعة وعظمة العاصمة الباريسية يفسر التضارب والاختلاف الذي يوجد بين باريس والمناطق الريفية الفرنسية في «نهاية العصر». باريس هي متاهة غنية بالوعود وأيضاً بالأفخاخ. بعد عام 1885 يعرض موباسان - القارئ الكبير لشارل بودلير- بشكل أساس إغراءات هذه «المدينة النجسة»، والتي تدعى المخدرات والدعارة وانتهاك الأخلاق ومخالفة القانون والانتهازية والوصولية. يستغل موباسان من خلال باريس قضايا مختلفة منها مثلاً: التعرض للشبهات التي تنغمس فيها الحياة الفرنسية. كما يركز على وسيلتين اثنتين للصعود الاجتماعي: المال والنساء. فباريس- كما يصورها موباسان- مجال جذاب ومغر ولكنه خطر حيث لا تهدف فيه المرأة المتمدنة إلا إلى اجتذاب الرجال بسحر خدعها وحيلها. باريس هي المدينة التي يفقد الإنسان فيها ذاته؛ كثير من الفنانين يتحولون فيها إلى متملقين وينحرفون عن حبهم للجمال لمصلحة هذا المعبود الذي يمارس قوى جذب كبيرة في معبده الباريسي: المال يقود ويحرك كل شيء في كتابات موباسان، كما هو الأمر عند بلزاك. إنه عالم يعمل فيه المال ويقتل.‏‏

لقد ارتاد موباسان صالونات العاصمة، وأدان النفاق والرياء الاجتماعي، وأظهر تفكك الآلية القاسية لأناس المجتمع، وكشف عن الكوميديا الإنسانية، وربط بشك خفي المصطنع بالمثالي. لقد رسم موباسان بحس الملاحظة المرهف عنده لوحة للباريسيين: أصحاب الزوارق وأصحاب الحوانيت والموظفين الحقيرين، وخصوصاً الصحفيين المنحلين والمتنورين، فيهاجم ويفضح تحالف الصحافة والمال والسلطة. بالتأكيد هذا العالم هو عالم مغلق تملؤه الوساوس والخدع والغش، عالم تهريج ومزاح وتهكم وسخرية تساعد على تجنب الألم الوجودي؛ عالم مغلق ومحدد على الأماكن الأكثر ارتياداً في باريس: السلطات العليا: «المال، الأوبرا، البورصة»، أماكن النزهات والمتع حيث يلتقي «المجتمع الراقي» و»باقي الشعب» «الشانزيليزيه-الطرقات الكبرى- الغابة - حديقة مونصو...».‏‏

وهكذا يرسم لنا الكاتب، هذا المسافر الغامض لوحات باريسية كبيرة تكشف لنا أخلاق ذلك العصر: الموضة في مباريات السيف ومباريات الريف، ثم يجب ألا ننسى أن هناك رمزاً باريسياً يجسد في الوقت نفسه القوة والانحطاط الفرنسيين: ألا وهو برج إيفل: راعية الأزمنة الحديثة التي تهدف إلى تغطية عيوب ونواقص وعاهات جمهورية على طريق الانحطاط وفضائح مالية وسياسية: باناما 1887، وأزمة البولنجية «مبدأ الجنرال بولنجييه الذي أعلن معارضته للحكم القائم في فرنسا بين عام 1885 – 1889...» وخصوصاً أنها حاملة لواء حقوق الإنسان، هذا البلد الذي دفع ثمناً غالياً جداً بسبب هزيمة 1870. لقد كان برج إيفل مشروعاً سياسياً، أظهر للعالم، تماماً في الوقت الذي توجب فيه ذلك، القوة والحيوية والنشاط والغنى الذي لا ينضب لهذا البلد الرائع: فرنسا. لم يك برج إيفل معيناً فقط لعلم الفلك وعلم المناخ وعلم الفيزياء، ولكن كان تفاخراً يبرز اقتصاد بلد يعاود نشاطه وانطلاقه. هذا الوحش المرعب يجسد الآمال الدنيئة والحقيرة اللاأخلاقية والسياسية للجمهورية الثالثة. ولقد شكل هذا بالنسبة إلى موباسان «الهيكل الكريه والعملاق» شعلة الخبل والكراهية والضياع والجنون.‏‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية