وحرضت على تأليف هذا العمل بالغ الأهمية في الأدب الفرنسي.
دعونا نبدأ من اللغز: ما هو الاسم الحقيقي لشخصية كوزيت في الرواية؟ «وهذا الاسم بالطبع هو مجرد لقب» إنه اوفرازي، ولكن من منا يعرفه؟ في الواقع هنا تكمن كل المفارقات في رواية البؤساء، الرواية الأعظم في تاريخ الأدب الفرنسي، حيث الكثير من شخصيات تلك الرواية – جان فالجان، جافير، غافروش... وشخصيات عديدة أخرى تتسلل في أعماق اللاوعي الجماعي «كم مرة لم نسمع فيها أن الزوجين بالكاني هما تيناردييه في منطقة هو دو سيه؟» نعتقد أننا قرأناها «وغالباً لم تكن سوى نسخة مختصرة» أو رأيناها في العديد من الأفلام سواء على الشاشة الكبيرة أو الصغيرة، ولكننا في الحقيقة لا نعرف تلك الرواية بالتمام. وفي إحدى المعارض تجرأ القائمون على متحف منزل فيكتور هوغو إطلاق عنوان على أحد المعارض التي افتتحها عام 2008، وطبعاً لا يخلو هذا العنوان من بعض الإثارة «هل البؤساء رواية غير معروفة؟» وعشية الاحتفال بمرور 150 عاماً على نشر الرواية، والتي صدرت في تاريخ 30 آذار عام 1860، نعود إلى الأسرار الكبيرة والصغيرة التي سبقت كتابة هذا العمل العظيم.
ولادة الرواية من علاقة محرّمة
في الخامس من شهر تموز عام 1845 طرق باب الشقة الواقعة في شارع سان روش، قرب ساحة الفاندوم مفوض شرطة باريس يرافقه زوج يستشيط غضباً. وكانت تجمع تلك الشقة الروائي فيكتور هوغو وصديقته المحببة ليوني بيار وهما في حالة تلبّس بجرم الخيانة. وفي ذلك العصر لم يكن هناك أي تهاون في مثل تلك القضايا، وتم إلقاء القبض على صديقته ليوني والحكم عليها بالسجن. أما صاحب قصيدة ارناني الشاعر هوغو، وكان له من العمر حينها 43 عاماً، فقد استفاد من الحصانة التي يتمتع بها بوصفه من إقطاعيي فرنسا، ونجا من السجن. ولكن ومن أجل الهروب من وصمة العار وتحاشي نظرات الاستهجان ضده، حبس نفسه وأغلق عليها في شقته الواقعة في ساحة رويال. وبهدف إملاء أوقات فراغه وقتل الوقت، انطلق هوغو في كتابة رواية، وعنوانها كان جان تريجان. وفيما بعد صار اسمها البؤس. ولدى مباشرة فيكتور هوغو في كتابة هذه الرواية لم يضع في تصوره أي مخطط لها أو أي خطة محددة سلفاً، حتى ولو أن هذا الأمر يصعب تصديقه نظراً للكم الهائل من السمات والملامح التي تميزت بها رواية هوغو «الملايين من الملامح» وكذلك في تعقيدات سير أحداث العمل، حيث تغطي الأحداث فيها الفترة الممتدة ما بين عامي 1794 - 1833، وتتقاطع تلك الأحداث مع معركة واترلو وكذلك ثورات عام 1832 إلى جانب التعاطي مع المئات من الشخصيات. ولا نجد مخططاً لتلك الرواية سوى أربع أسطر خطهم هوغو في أحد الزوايا يقول فيهم «حكاية قديس، حكاية رجل، حكاية امرأة، حكاية دمية» وهذا كل شيء عن البؤساء.
توقف فيكتور هوغو عن كتابة مغامرات كوزيت وفانتين وجان فالجان، على أثر انشغاله واستغراقه في أحداث ثورة عام 1848 لمدة اثني عشر عاماً. وبعد نفيه خارج فرنسا، وكان هذا في عام 1860. كتب بطرك غيرنيسيه في ذلك العام بالتحديد ملاحظة تقول «سحب البؤساء من الصندوق المخصص للمخطوطات» وعلى المخطوطة المحفوظة الآن في المكتبة الوطنية نقرأ في منتصف الفصل تحت عنوان «بوفارد، بافارد» في الرابع عشر من شهر شباط عام 1848 ما يلي «هنا، توقف إقطاعي فرنسا عن الكتابة، واستمر النفي» 30 كانون الأول 1860، غيرنيسيه.»
الطاولة الدوارة
وما تلا ذلك كان بمثابة توجيه ضربة على كل العقلانية الهوغولية، حيث تم العثور على اسم البؤساء الذي أطلق على الرواية، التي احتلت لها موقعاً كبيراً في الأدب من خلال طاولة دوارة. فقد كان من المعروف أن الكاتب هوغو وأملاً منه في التواصل مع ابنته ليوبولدين التي توفيت غرقاً في عام 1843، كان يتحاور مع العالم الآخر ضمن جلسات تخاطر عائلية. وكان هناك نظام يقرنون الأحرف الأبجدية حسب عدد الضربات التي تجريها رجل الطاولة الدوارة لينتهي الأمر إلى تشكيل جملة. وعلى هذا النحو أمرت الطاولة الدوارة الشاعر هوغو في 15 أيلول عام 1853 «أيها الرجل العظيم، انهي البؤساء!» ووجد هذا العنوان صدى له من خلال عبارات شهيرة في الرواية «ثمة نقطة حيث تختلط وتتماهى فيها كلمة تعيسي الحظ والسفلة في كلمة واحدة، كلمة مشؤومة هي البؤساء: على من يقع الخطأ؟».
وتفيض رواية البؤساء بتلميحات إلى حياة الكاتب فيكتور هوغو، إلى درجة أن البعض رأى فيها تقريباً سيرة ذاتية مقنعة تحت ظاهرة قصة مسلسلة واسعة. تلميح مرمز لعشيقته جولييت درويه، وهنا نلتقي في ممرات دير بتي بيكوس الذي تختبئ فيه كوزيت وجان فالجان «بالآنسة درويه، أم الملائكة» كما وأن تاريخ زواج كوزيت من ماريوس «الشخصية التي اتخذت الكثير من ملامح الكاتب هوغو، بدءاً من اللقب الثاني، ماري» المصادف للسادس عشر من شهر شباط 1833 يتوافق مع أول ليلة مضت من قبل «تورور» مع جولييت. وإلماح فيه جرأة أكبر أيضاً إلى ليوني بيار، والتي نراها بشكل غير متعمد في أصل الرواية، إذ يخبئ جان فلجان كنزه في مطهرة مونفيرميه بدلاً من بلارو، وهو الاسم المستعار الذي كانت بيار توقع عليه اسمها في مقالات كانت تكتبها لمجلة «الأحداث».
في ذلك العصر وبهدف حصول الرواية على أفضل المبيعات، كان لا بد لأحد الناشرين أن يركب الباخرة ويبحر إلى فرنسا. وهذا ما أقدم عليه الناشر البير لاكروا، الذي جاء للتفاوض مباشرة مع هوغو في غيرنيسيه، مع مضاعفة المبلغ المقدم له من قبل منافسيه. فقد عرض الناشر البلجيكي مبلغ 240000 فرنك بلجيكي لرواية البؤساء. وهذا المبلغ يعادل أكثر من 600000يورو تدفع لروايات هذا اليوم. ووقع هوغو على العقد. وانطلاقاً من هذا اليوم، لم يعد المنفي الفرنسي الأكثر شهرة يعاني من مشاكل مع المال. ومع الحقوق التي ضمنها من روايته تلك، استطاع ترميم وتجميل واجهة هوتفيل وهو منزله في غيرنيسيه، واستطاع كذلك من خلال هذا المبلغ بناء حجرة «النظرة الشاملة» الشهيرة، وهي عبارة عن حجرة من الزجاج، جعل منها هوغو غرفته للكتابة، كما ووفر له هذا المبلغ دفع مهر ابنته اديل «50000 فرنك» واستثمر باقي المبلغ في أسهم. الأمر الذي لم يخلُ من السخرية إذا ما فكرنا أن تلك الرواية قد بدت وكأنها تهمة كبيرة ضد مستغلي البؤس البشري.
ولكي يؤمن الكاتب هوغو نقل مخطوطته من البؤساء إلى مطابع بلدان القارة الأوروبية اقتنى من أجل هذه الغاية حقيبة ضد الماء، وهذا ما يشير إليه في أجندته. إجراء احترازي غير مجدٍ، نظراً لأن نقلها كان آمناً.
ظهرت الطبعة الأولى من الرواية بتاريخ 30 آذار عام 1862 في بروكسل صادرة عن دار نشر لاكروا وفيربوكهوفن «واعتبر هواة الكتب أن الطبعة تلك هي الأصلية» وظهرت طبعة البؤساء في باريس بتاريخ 3 نيسان من نفس العام لدى دار بانير. وبالتزامن انتشرت الرواية باللغة الفرنسية في العديد من العواصم منها لشبونة وروما ولندن وموسكو وريو دي جانيرو. وفي أعقاب صدورها بخمسة عشر يوماً تمت قرصنة خمس طبعات من الرواية. وبعد مرور خمسة أشهر على إصدارها، وعلى الرغم من ارتفاع ثمنها، بيع منها 100000 نسخة عبر العالم، وهو رقم كبير قياساً بذلك العصر.
وفي اليوم المصادف لنشر الطبعة الثانية من الرواية، بتاريخ 15 أيار عام 1862، ومنذ الساعة السادسة والنصف صباحاً، احتشدت أعداد ضخمة من باعة الكتب ووسطاء البيع والقراء والفضوليين أمام متجر الناشر بانير في شارع السين في مشهد أشبه بهياج شعبي. وخلقت العربات ذات العجلتين التي ازدحم بها الشارع أزمة سير خانقة؛ بحيث أننا لا نرى شيئاً جديداً في الاستراتيجية التسويقية التي ابتدعها ناشر رواية هاري بوتر خلال إطلاق طبعات الرواية في منتصف الليل.
ولا يمكن الزعم أن الأدباء ممن عاصروا الروائي هوغو قد استقبلوا نجاح روايته البؤساء بالترحاب. فقد رأى الكاتب فلوبير، من جانبه بأن «هذا الكتاب قد جرى تأليفه من أجل حثالة الكاثوليكية- الاجتماعية» كما وتأسفت الكاتبة جورج صاند لأن أسقف الترحيب، وهو أسقف Digne وفيه افتتحت الرواية قد قدمها بحماس شديد. ولكن الضربة التي دام صداها فترة طويلة جاءت من باربي دورفيلي، مؤلف الديابوليك الذي استنكر بعض ما ورد في الرواية وزعم أنها «مقبلات لا لزوم لها أضيفت إلى العمل انتهت إلى القضاء على فكرة الفائدة من العمل» وهذه الديابوليتيكية لدى دورفيلي استهدفت الفصل الخاص بمعركة واترلو، والخطبة الطويلة «لطفل باريس» أو الوصف التفصيلي لدير بيكوس. وفي الواقع لم تؤثر وتضعف المشاهد المؤثرة في لقاء كوزيت مع جان فالجان وموت فانتين أو الوصف المسهب لمدينة باريس من مسار السرد الروائي على مدى 1500 صفحة.
وبعد وفاة الأديب فيكتور هوغو بنحو اثني عشر عاماً استولت السينما على روايته، وأول من اقتبس الرواية للسينما كان الأخوان لوميير في عام 1897. وقد صورا كوميديا تدور حول الشخصيات الرئيسية في الرواية. ومن بين حوالي خمسين فيلماً عن البؤساء، يمكن القول إن ثمة أفلاماً منها كانت مميزة، ومنها الفيلم الذي صور عام 1933 وقام هاري بور بدور جان فالجان، وفيلم المخرج جان بول لو شانوا عام 1958. ولكن يمكن القول إن أي من تلك الأفلام لم يكن مقنعاً.
عن إكسبريس