من حيث طبيعتها ونتائجها والظروف المحيطة بها ,وتداعياتها المحلية والإقليمية والدولية وتفاعلاتها على الداخل الإسرائيلي ،وما أظهرته من فشل استراتيجي على صعيد أداء جيش الاحتلال ميدانيا،وعلاقة المستوى السياسي بالمستوى العسكري وبالتالي عدم تحقيق أي من الأهداف السياسية المعلنة والمضمرة التي شنت إسرائيل تلك الحرب على أساسها .
وفي الذكرى الثالثة لاندلاع حرب تموز أو كما يسميها الإسرائيليون حرب لبنان الثانية تعود مشاعر الخيبة من نتائجها لتطغى مجددا على الجدل الاسرئيلي المستمر حولها.ففيما يكثر الزعماء السياسيون والعسكريون الإسرائيليون من تصريحاتهم المتناقضة حولها والتي تتخللها توجيه الاتهامات ضد بعضهم البعض بشأن مسؤوليتهم عن الإخفاقات الكبيرة للحرب لدرجة ان الكثير منهم لم يحضر حفل تأبين القتلى الذين قتلوا خلالها، تسهب الصحف الاسرائيلية تحليلا وتمحيصا حول أسباب الفشل التي تمخضت عنها ،وتساهم مراكز البحث والدراسات بقسط لابأس به في الجدل الدائر حولها أيضاً.
وكان رئيس أركان جيش الاحتلال السابق ، دان حالوتس ،الذي دفع ثمن إخفاقاتها عندما قدم استقالته ، أول من تحدث خلال يوم دراسي نظمه معهد دراسات الأمن القومي في جامعة تل أبيب قائلا :كان التوجه بتنفيذ عملية بقوة بالغة، وهو التوجه الذي إذا كنا نرغب بالحياة في الحلبة الشرق أوسطية، فإن علينا أن ننفذ أحيانا عملية عسكرية بشكل يظهر منها وكأن «صاحب البيت قد جنّ».واعتبر حالوتس أن اقرار حكومة إسرائيل بشن عملية عسكرية واسعة على لبنان كان صحيحا وعادلا وعبّر عن فهم للواقع. وقال :إن شكل العمليات العسكرية والغارات الشديدة التي نفذها سلاح الجو الإسرائيلي خلال الحرب تبلورت لديه خلال فترة سبقت الحرب وهي لم تولد جراء عملية الاختطاف أي هجوم حزب الله وأسر جنديين إسرائيليين صبيحة 12 تموز. وكانت الفكرة دفع حزب الله إلى ما وراء السقف الذي سار عليه. نعم، كان بالإمكان الاستمرار في اختيار سياسة النعامة والاعتقاد بأن الصواريخ (لدى حزب الله) ستستمر في الصدأ. وكان بالإمكان الاكتفاء برد فعل موضعي. وكان بالإمكان أيضا التفكير بالتريث والاستعداد لعملية واسعة. واليوم أيضا لو توفرت المعطيات ذاتها كنت سأوصي بنمط العملية ذاته. وتابع حالوتس هل فكر أحد ما بأن التوصية أمام القيادة السياسية بالعمل (عسكريا) كانت قرارا وُلد في لحظة الاختطاف؟ إذا كان الأمر كذلك فإني أقول: إن رأيه لا يستند إلا على شكوك في قلبه وسخافة وجنون.
بدوره قال نائب رئيس أركان جيش الاحتلال خلال الحرب، اللواء احتياط موشيه كابلينسكي، في اليوم الدراسي نفسه: إنه كانت هناك إخفاقات كثيرة ارتكبتها الحكومة والجيش الإسرائيليين تتعلق بشكل إدارة الحرب. وقال: إنه كانت للجيش الإسرائيلي والحكومة إخفاقات كثيرة في إدارة الحرب. وأوضح كابلينسكي أن الجيش الإسرائيلي لم يستخدم الخطة العسكرية، التي أعدها للرد على خطف جنود وإطلاق صواريخ (على الجبهة الداخلية الإسرائيلية)، ولم نستخدم كافة الوسائل والوحدات التي تحت تصرفنا وتأخر تجنيد (قوات) الاحتياط. وأشار إلى أنه لم يكن هناك قاسما مشتركا بين القيادة العسكرية والقيادة السياسية والحكومة لم تحدد للجيش أهداف القتال خلال الحرب.
من جانبه وجه رئيس مجلس الأمن القومي الإسرائيلي السابق، اللواء احتياط غيورا آيلاند، انتقادات لحكومة اولمرت، بأنها أمرت في حرب لبنان الثانية والحرب على غزة بتنفيذ عمليات عسكرية من دون تحديد هدف واضح ومحدد. وقال آيلاند إنه عندما خرجنا إلى عملية «الرصاص المسكوب» لم يكن واضحا ما الذي يريدون تحقيقه، والتعريف الذي وضعته القيادة السياسية هو إيجاد ظروف أمنية أفضل، وهذا التعريف لا يمكن ترجمته للقيادة العسكرية. وفقط بعد مرور ثلاثة أيام (على الحرب) بدأت المداولات، وماذا كان الهدف عندما بدأت عملية الرصاص المسكوب؟ أنا سأقول لكم، لم يكن الهدف محدداً. ورأى أن المشكلة نفسها أدت إلى إخفاقات إسرائيل خلال حرب لبنان الثانية وإذا عدنا إلى اجتماع الحكومة الذي عقد في 12 تموز (2006) وسنرى أنها لم تعرّف الهدف بالشكل الصحيح.
وتابع آيلاند: كان على أولمرت القول بعد هجوم حزب الله وأسر الجنديين الإسرائيليين إننا سننفذ عملية انتقامية قوية ونشغل سلاح الجو ليومين أو ثلاثة، وهكذا فإن الثمن الذي سيدفعه حزب الله سيكون كبيرا ويمكن الافتراض أنه بعد اليومين سيصرخ العالم مطالبا بوقف إطلاق النار، وكان من شأن عملية كهذه أن ترمم قدرة الردع الإسرائيلية والثمن الذي سيدفعه الجانب الآخر كبيرا ورغم أن الإنجاز سيكون محدودا لكن الثمن الذي ستدفعه إسرائيل سيكون منخفضاً.
اما شاؤول موفاز وزير الحرب السابق وأحد زعماء كاديما، فقد اعتبر أن إسرائيل حققت قدرة ردع محدودة أمام حزب الله خلال حرب لبنان الثانية. وقال موفاز في مقابلة مع الإذاعة الإسرائيلية العامة، إن إسرائيل حققت قدرة ردع محدودة أمام حزب الله، وقد كانت الحرب بمثابة إهدار فرصة لأنه كان بالإمكان تحقيق إنجازات أكثرب. وأضاف موفاز، يوجد لدى حزب الله اليوم صواريخ أكثر بكثير مما كان لديه قبل الحرب كما أن مدى هذه الصواريخ أطول. وتابع إن التهديد الصاروخي على إسرائيل من جانب حزب الله أكبر من التهديد الصاروخي الإيراني، والهدوء الحاصل الآن (عند الحدود الإسرائيلية اللبنانية) قابل للاشتعال، كما أن نيات إيران وحزب الله لم تتغير.
ورأى وزير الحرب باراك: أن الحرب ما زالت ماثلة في وعينا الجماعي كهزة دفعتنا إلى فتح عيوننا، وأضاف مخاطباً جنوداً اشتركوا في تلك الحرب: «بالنسبة لكم هي نقطة فاصلة مروعة، بعدها لن يكون شيء كما كان»، وعن النتائج زعم باراك أن الحرب حققت ردعاً فعالاً، وأعادت الهدوء إلى الشمال، إلا أنه اعتبر أن الأوضاع ما زالت قابلة للانفجار. وأضاف: حزب الله يعزز قوته ويواصل التسلح، ولم تنته أيام التصعيد.
وخلافا لتصريحات الكثير من المسؤولين العسكريين الذين يعتقدون ان جيشهم قد استعاد قوة الردع، فإن العديد من كبار المحللين العسكريين في الصحف الاسرائيلية يشككون في مثل هذه التصريحات. فأي ردع حققته الحرب لإسرائيل؟! سؤال كبير طرحه ألون بن دافيد، المراسل العسكري للقناة الأولى في التلفزيون الإسرائيلي. ربما يكون ذلك الجيش رفع من جاهزيته عبر العدوان على غزة، وعبر أضخم تدريبات عسكرية شهدتها إسرائيل منذ قيامها، والتي أجريت في مطلع حزيران الماضي تحت اسم نقطة تحول-3، بعد أن سبقتها تدريبات مماثلة تحت اسم نقطة تحول-1 ونقطة تحول-2، غير أن ذلك الجيش ما زال مذعوراً وفق الشهادات الإسرائيلية، وتلك الدولة لا تزال قلقة جداً من ذلك المخزون الصاروخي لدى حزب الله ومن جاهزية مقاتليه، ولا تزال إسرائيل بكاملها تحت وطأة هواجس هزيمة أخرى، إذا ما تجرأت وشنت عدواناً جديداً على لبنان.
فما يجمع عليه معظم محللي الصحف الاسرائيلية كأحد أهم الاستخلاصات من حرب تموز والذي يقض مضاجع الإسرائيليين برمتهم هو: البطن الرخوة، أي الجبهة الداخلية الإسرائيلية التي انهارت تماماً خلال أيام الحرب. بحسب استخلاصات المحلل العسكري عاموس هرئيل في هآرتس الذي أضاف في مقال مطول: «فلو أردنا أن نكثف نتائج وتداعيات تلك الحرب على إسرائيل والمجتمع والجيش الإسرائيلي، لقلنا بالعناوين الكبيرة: إن عام 2006 هو أسوأ عام في تاريخ الدولة العبرية .إسرائيل منيت بهزيمة حارقة لن تنسى على مدى الأجيال الإسرائيلية.هواجس وجود ومستقبل الدولة العبرية تتفاعل على الأجندات الإسرائيلية. نظريات ومفاهيم عسكرية تساقطت، وأهداف سياسية واستراتيجية تحطمت. الجيش الإسرائيلي يعيد صياغة نظرياته العسكرية القتالية في أعقاب الإخفاقات الكبيرة في لبنان.
من جهة أخرى يعتقد محللون عسكريون إسرائيليون آخرون ان لكل هذه الاستخلاصات المكثفة في الميزان العسكري والاستراتيجي الإسرائيلي، علاقة مباشرة بمفاهيم العقيدة والنظريات العسكرية القتالية والتفوق المطلق وقدرة الردع وتعبيرات أكثرت المؤسسة العسكرية الإسرائيلية من التشدق بها مثل كي الوعي لديهم. ودعوا الجيش ينتصر والنصر والحسم فقد سعت تلك الدولة على مدى العقود الماضية إلى الترويج لرواية خاصة متميزة تصورها صاحبة جيش صغير وذكي وقوي لا يقهر، ويحقق الانتصارات السريعة الساحقة على مجموع الدول والجيوش العربية.
غير انه وبحسب التقديرات الاسرائيلية نفسها نجحت المقاومة اللبنانية في قلب كل الحسابات والتقديرات الاستراتيجية، وفي تحويل الانتصارات الإسرائيلية السريعة والمذهلة إلى هزيمة حرقت الوعي والمفاهيم الإسرائيلية. ففي حربها على لبنان اعتمدت آلة الحرب الإسرائيلية، ذات المفاهيم المستندة إلى بلطجة القوة والعربدة العسكرية ، على شكل عمليات القصف الجوي اي الأرض المحروقة بحسب التعبير العسكري، ما تسبّب في تدمير قرى لبنانية كاملة ومحوها عن وجه الأرض وتدمير أحياء كاملة في العاصمة بيروت، إضافة إلى استهداف جميع عناوين البنية التحتية اللبنانية، من طرق وجسور وشبكات مياه وكهرباء وغيرها.
ولكن عملياً، على الأرض وفي ميادين المواجهة والقتال هناك، لم تسر الرياح كما تشتهي الآلة العسكرية الاسرائيلية، على الرغم من أنها رمت بثقلها الحربي المعروف في تلك المعارك المتدحرجة، ولكن كل حساباتها انقلبت رأسا على عقب.. وتحول المشهد الإسرائيلي من حالة النشوة والثقة المطلقة بالنفس والاعتقاد الراسخ بالانتصار السريع الساحق على حزب الله، إلى حالة اليأس والإحباط والإحساس بالهزيمة أمام هؤلاء المقاومين الذين لم تلن لهم عزيمة ولم يضعفوا. فانقلبت الأمور والاستراتيجيات والأهداف، وكان أن واجهت (إسرائيل العظمى) أعظم إذلال عسكري في تاريخها، بحسب المحلل العسكري الأمريكي بريت ستيغنر في صحيفة وول ستريت جورنال الأميركية.