ولا يقرؤون إلا في كتابهم المحفوظ، ولا يميّزون العلامات الفارقة، ولا يسمعون إلّا ما يريدون، ولا يقولون ما يفيد، ولا يتحرّكون حسب الحاجة والضرورة والحالة؛ مظاهرهم متأنّقة، وملامحهم حياديّة؛ مستعجلون في دوامهم، متباردون في تفاعلهم وتجاوبهم؛ زمنهم مختلف، ولا يموتون بالتقادم؛ أدواتهم حديثة، وتعاملهم جاهليّ، برمجتهم تعود إلى بدايات المراحل، وأواخر التحرّيات التي تعتمد على الملَكات والنيّات والتكهّنات والانتماءات التي لم تتعدّل، ولم تترمّم، رغم الانتقالات الموسميّة والطارئة، والاحتباسات الحراريّة وغير الطقسيّة، والمنعطفات والفواصل، والانهيارات الأرضيّة والتعكّرات السماوية..
مازلت في بوابة العبور..
يحاول الوقت مدّ لسانه، أحاول تجنّب التفاتة إليه، يتربّص بي على قارعة الحلم، ما تبقّى منه؛ أحاول الاقتناع بالكفاية ممّا كان، لأتمنّى شيئاً آخر..
يراودني العسس عن معنى العبور وفحواه. أحاول إقناعهم أن لا أحد ينتظرني هناك، ولا هنا، وأن لا خوف عليهم؛ أما تخوّفهم على العباد، فأخجل أن أفكّر فيه!
أدهشتني جرأتي؛ لا حلّ آخر، هذا ما يبدو أنّني بتّ مقتنعاً به، ربما؛ ألأنّه لم يعد ما يُخشى عليه، أو ما يُخشى منه؟! أم إنّ حدّة الإحساس بالأشياء تغيّرت؛ أم إنّ الأشياء ذاتها لم تعد جاذبة ولانابذة؟!
هل للعمر علاقة بهذا؛ لم أزل في عمر الخطيئة، حتّى بزلّات اللسان، أو بإضمار التّوق وإخفاء اللهفة، حتّى بمغالبة الرّغبة والاندفاع والحماسة، أو بإشاعتها؛ فهي جريرة أيضاً!
لم أخش التفتيش، ففتحاتي شفّافة، ولم أرضَ أن أتملّق، أو أتوسّل أو أتحمّل.. فانتفضت، فتناثر الشفق، ولم تكن معجزة، كما حاول من تبقّى منهم أن يعمّم؛ فزمن المعجزات اُستهلك، ولم أقلْ شيئاً؛ فزمن الدهشة تلدّن؛ تبدّل المعبَر، أم تحوّل العابرون؟!
ما لهم يتنافرون حتّى تضيق بهم الدروب، ويتكاثفون، فتغصّ المنافذ! ويحرن الوقت مادّا لسانه، محاولاً تجنّب التفاتة إليه؛ لم أجد بُدّاً من..
تهدّجت قهقهة، وغامت السماء، أو عامت الأرض، فتداخلا رتقاً، وانحشرت الكائنات بين المسنّنات، تعيق حركتها التي تعيد الفتق من جديد، أكاد أحسّ أنّ هناك نذوراً غريبة تُوفّى، وفروضاً قديمة ومستجدّة تُؤدّى بشكل مختلف، وأكاد أسمع أنيناً وصريراً ونفيراً وحشرجات، عويلاً وهلوسات، تكبيرات ودعوات لقبول القرابين البشريّة التي لا ترضى كراماتها أن تُفتدى بأكباش عظام!
المطر الذي تقطّر محمرّاً انسال شآبيب، واختلطت إشراقات الفتح البعيد بقتامة الغلقِ القريب، وتداخلت ملامح الملوّحين بشاشةً بمناديل المودّعين قنوطاً وافتراقاً، واشتبك الخارجون بالداخلين على أحقّية الخطو، وصوابيّة السُّمُوت، وساد زهق وافتراق، وانساقت الجموع شرهة إلى جحيمها. الشيطان ضاق ذرعاً بالمدعوّين، ولم يرض التحقّق من كنههم، وكاد يشتاط فرحاً بقدرته على التحكّم بخَلقِ الله، والهيمنة على الكائنات التي تنساق إليه بلا إكراه؛ لكنّه ضبط أعصابه، وأبدى انزعاجاً من الفوضى الخلّاقة التي تدور في عديد الجبهات والأركان؛ فهو الأحقّ بتبنّيها، لأنّه صاحبها المزمن، وحارسها ونافخ كورها.. وكاد يظهر، لكنه تراجع، وترك لعناصره المنظورة، ومحرّضاته المتخفّية، ومنشّطاته القديمة والمبتكرة أن تقوم بفعلها الشائن، وترفع راياتها المشؤومة، فتخرجُ المخلّفات القاتمة..
كنت أحاول التخفيف عنّي؛ بعد كلّ ما عاينت وخبرت، وعانيت وتألّمت، ولاحظت من فصام واختصام وانبتات، وراعني ما يهتمّ به أولو المسؤولية، وما ينشغل به أصحاب المنافذ..
كنت أحاول التشبّث بما يجعلني ثابتاً متماسكاً واثقاً؛ لأنّي لا أملك ما يثبت هويّتي؛ لم أفكّر في ذلك، لم أتوقّع أن يكون ذلك موضع تساؤل أو تشكيك أو اهتمام، ولأنّي لست متأكّداً من أنّني في عجلة من العودة؛ فلا طريق غاصّة بالكائنات المحشورة، ولا أستطيع البقاء هنا طويلاً؛ فألسنة الوقت تتناهبني، وتتربّص بي القهقهات من جميع الجهات..