أطلعته عليه وطلبت منه أن يتنبّأ بمستقبل صاحب هذا الخطّ الشاحب,أطرق مؤسّس الواقعيّة الروائيّة هنيهة ثمّ صارحها بالحقيقة المرّة:(صاحب هذا الخط يا سيدتي الفاضلة جبان وجاهل ومدّع)..!
أجابت السيّدة العجوز بمنتهى ما أوتيت من برودة المسنّين :اسمح لي أن أصارحك يا عزيزي(هونري) ذا الذّاكرة الضعيفة أنّ صاحب هذا الخط هوّ أنت حينما كنت طفلا.
داهمتني هذه الحادثة وأنا أتصفّح أوراقا قديمة كان قد حرثها خطّي المغاربيّ المفشكل.
شواهد خفت أن تدينني أو أدينها فوجدت أغلبها طازجة الحبر دافئة الورق، رقيقة الملمس...لكنّها سميكة الغبار.
إليكم بعض ما كتبته دون (روتشة) و بقلب مرتجف وقلم واثق إلى حدّ التهوّر:
كالألماس مازلنا نقرأ الفاتحة على أرواح غيفارا وغاندي وأبي ذرالغفاري..
ما زلنا نسنّ أقلامنا على صلابة الواقع..
نكتب ونعد أنفسنا بالتخلّي عن الخمور الرديئة والتّبوغ الرخيصة وتمجيد الشّقاء...
مازلنا نقسم على انتصار الشمس
أمضي بالتسكّع في دفاتري القديمة كبقّال مفلس،أشيح بوجهي على جمل باهتة وتراكيب عرجاء،أضحك من أحقاد ايديولوجيّة كتبت لأجل انتقامات صغيرة،أخجل من قصائد تشبه القصائد،أتنهّد أمام بقايا وردة يابسة تحرس الصفحات ويجفل ذهني كتلميذ يتيم في حفل تخرّج بمدرسة... وأقرأ:
هذه الطناجر مثلي تطفح انتظارا... ولا تأتين
السقف يبكي وهذه أوّل نقطة باردة على أنفي وأخرى على أوّل السطر عند (لا)... وتأتين في هذا الليل الأبيض
وعندما اقتلعه الكلاّب ذات خريف قال:
اسأل المطرقة يا سيّدي، أنا أيضا كنت أئن
أوشك أن أمزّق أوراقي ثمّ أتراجع فأجدني كمن يحاول أن يمحو التجاعيد بمجرّد التذكّر.
ما أخطر الكتابة، إنّها القدر تخطّه على جبين الورق ثمّ تتعب في مراده كثعلب يبحث عن ذيله.
القلم, يا لهذه الإصبع السادسة التي تحتفظ بأصدق بصماتك وأوّل من يتوجّه إليك بالإتّهام حين تتنكّر إليها أو تقرّر بترها
ولكن, ثمّة شيء كتبناه حين لم نرد كتابته فأيّ خبير يمكن أن يقتفي أثره ويخبر عن مستقبل فاعله ؟!.
أقرأ مرّة أخرى وأنا مغمض العينين كعرّاف واثق من شعوذته:
نحن الذين لا تطرق أبوابهم إلاّ الفواتير والدّائنون
نحن الذين تبرّأت منهم قبائلهم عند اللزوم وألسنتهم عند الإهانة وخواصرهم عند الرقص
نحن الذين نموت فلا يختصم من بعدنا الورثة
نحن الذين قلنا للزمن كن.. فلم يكن
هل أواسي النفس أم أعاتبها حين أقول هامسا أمام هذه الأوراق التي ابتلانا فيها قدماء الصينيين والمصريين حين اخترعوها : الشعر لا ينبغي أن يكتب بقلم في طرفه ممحاة،إنّه زلّة قلم يظنّه صاحبه مؤدّبا, أو فلنقل: إنّه الكتابة بالممحاة، ألم يقل ميكائيل أنجلو: أنا لا أنحت التمثال بل أبصره داخل الكتلة وأكتفي بأن أقشّر عنه الحجر والرخام....وأحيانا أخشى على أطراف جسمه من الإصابة بضربة إزميل طائشة.
ليت أدب بلزاك كان رديئا فيصدق حدسه وتصحّ استقراءاته لأضع أمامه هذه السّطور ذات الطّعم المالح كتبتها قبل (وسادتي الخالية):
التي تبلّلني قبلاتها عند الصباح فأتمطّط كزهرة صغيرة وكسولة تفتح
ذراعيها للشمس والنحل والعشّاق بين الصخور.
وأنهض... مثل كلمة نابية ظلّت ترقد طويلا تحت لسان منافق
التي تمسح بيدها على رأسي فينطفئ الشيب... ولاينفجر
تودّعني-, فتختفي السحب والغبار والأوغاد
التي أمسح بكل وبر الروح على يدها مثل قطّ صالون مستضعف وخائف من فئران البيت ومن أترابه في المزابل
التي لم ألمس يوما يدها... هاهي تلوي ذراعي كلّ مساء
تنام فأستيقظ مثل لسان نار يلعق نفسه ويرثي الرماد
التي جعلتني أدمن غيابها قد تحضر هذا المساء، فتربكني مثل من لا ينام إلا على الصياح
عفواً, بلزاك,…… ماذا يفعل شاعر لم تخطّ أصابعه غير قدره؟.
hakemmarzoky@yahoo.fr