تلفّتَ من حوله فلم يجدْ أمامه إلاّ ذلك الجهاز السحريّ الذي يُسمّى ( هاتفاً) لكنه لديه المصباح السحريّ ، وما عليه إلاّ أن يضغط زرّ الذاكرة في ذلك الجهاز ثمّ تأتيه النجدة على جناح السرعة من قبل صديق يتجاهل سيرته المؤلمة ، لذلك لا يرى مانعاً من التشفّع له لدى صاحب القرار ، دون أن يدري أنّ الثقوب التي أحاقت بإزار صديقه باتت من الغلظة بمكان بحيث يصعب رتق فتوقها.
لم يطلْ تردّده وسرعان ما جاء الوعد بأنّ الغمامة المزعجة قد حزمت حقيبتها معلنة أنها لن تكدّر عليه حياته الوظيفيّة ، وذهب إلى بيته مطمئناً وأسلم نفسه للسرير في محاولة منه لنسيان ما مرّ به في ذلك اليوم من غمّ وهمّ .
لكأنه بين النوم واليقظة يسمع رنين الهاتف ، لكنّ إصرار المتّصل على عدم إغلاق سمّاعة الهاتف أطار النوم من عينيه ، ثمّ اضطرّ لفركهما بصورة متكرّرة بعد أن عرف أنّ قرار عزله قد صدر .
كان أمامه فرصة للالتفات إلى الماضي لتقييمه تقييماً موضوعيّاً لكنّه فوّت بغروره الأجوف هذه الفرصة التي قد لا تكون متاحة في كلّ زمان ومكان ، وكان بوسعه أن يتّعظ بغيره لكنّه كان جاهلاً أهوج فلم يتّعظْ حتّى بنفسه .
نسيَ أو تناسى تأخّره عن الحضور إلى مكان عمله يوميّاً ، ونسيَ أو تناسى تعامله مع المراجعين بفوقيّة مَقيتة ، نسيَ إلحاحه الذميم لوضع اسمه مع الذين يستحقّون مكافأة مع أنّ القاصي يعلم قبل الدّاني أنّ مؤسّسته لم تستفد منه لا من قريب ولا من بعيد .
تذكّر أمراً واحداً صوّره له خياله المريض المسكون بالوهم فاقتنع به ، فآمن أنه المقصود بالإزاحة لأنه ناجح في عمله ، ولأنّ نجاحه قد يساعد نجم صعوده في السير بسرعة أعلى فيصبح خطراً على الآخرين الذين لا يبدون ارتياحاً لطموحه الصّارخ.
تذكّر أن يبدأ حملة على صاحب القرار الذي فعل خيراً يثاب عليه عندما أزاحه ، واختار بدلاً منه عاملاً يضع مصلحة البلاد والعباد فوق مصلحته الشخصيّة الضيّقة .
مضى الوقت متثاقلاً في مشيته بل كانت مشيته ترنّحاً يوحي بالسقوط الوشيك ، ثمّ عرف فيما بعد أنّ من توسّط له وحاول التشفّع لم يفلح وبدت الأسباب مقنعة لكنّه لم يقتنع .
قيل للوسيط إنّ الصّفات التي أشرتَ إليها ليست موجودة في صاحبك ، أمّا النقاط المضيئة التي بدت لك كذلك فهي في عيوننا كحريصين على المصلحة العامة تحاكي نجوماً هرمتْ وباخ ضوؤها ثمّ انتظرت لحظة الانفجار العظيم التي فسّر بها بعض العلماء نشأة الكون لتنفجر مع تلك النجوم غائرة في الثقب الأسود الهائل الذي نعرف بدايته ولا نعرف نهايته .
ثمّ جاءت الصفعة المؤلمة التي لم يشعر بوقعها على خدّه ، لقد أخطأنا عندما عزلناهُ ، وانفتحتْ كوّة ضيّقة من الأمل ، ورغم ضيقها فقد أذنتْ لشعاعٍ هزيل بالتسلّل ، كان حباباً لا يؤثر البقاء ، لقد أخطأنا عندما تأخرنا في اتحاذ قرار كان يجب اتّخاذه منذ زمن بعيد ، لكنْ أن تصل متأخراً خيرٌ من ألاّ تصل مطلقاً.