وبرحيل الرئيس هوغو شافيز، فقد الشعب الفنزويلي، ومعه شعوب العالم الثالث، قائداً مناضلاً صلباً، استطاع من موقعه اليساري ، أن يخوض الصراع ، ضد الولايات المتحدة وحلفائها في الداخل والخارج، سواء على المستوى الإقليمي، حيث قاد أميركا اللاتينية إلى مرحلة التكامل والتحرر من خلال مشروع «البديل البوليفاري» و”اشتراكية القرن الحادي والعشرين”، أو على المستوى الدولي، حيث سجلت له مواقف مشرّفة في محطات عدة، وأبرزها قطع العلاقات السياسية والاقتصادية مع العدو الصهيوني رداً على جرائمه في لبنان وفلسطين، وهو ما لم يجرؤ عليه يومها أي حاكم عربي.
ويجمع معظم المحللين في الغرب أن شافيز ، كان يمثل الوريث الآخر للزعيم الكوبي فيديل كاسترو، الذي سلّم السلطة في الداخل إلى شقيقه راوول ، أما في الخارج فإن الأمور تسير كما لوأن كاسترو اختار شافيز وهو في سن ابنه - وريثه الروحي. وعلى أكثر من صعيد ، عوض مهندس «الثورة البوليفارية» منذ بداية الألفية الجديدة ، زعيم الثورة الكوبية على الساحة الدولية. وقدأسهم ارتفاع أسعار النفط ، في جعل هوغو شافيز رئيساً قوياً لفنزويلا، خامس منتج للنفط في العالم. وليس خافياً على أحد ، أن شافيزالذي تحول بدوره إلى رجل دولة قوي يجوب العالم ، بات يوظف العائدات الكبيرة من النفط للتأثير في الوضع الإقليمي و الدولي، عبر تزعمه جبهة عالمية مناهضة للولايات المتحدة آخذة في الاتساع ، متكونة من اليساريين في أميركا اللاتينية، وتأثيره على العمليات الانتخابية في المنطقة، وتحالفاته مع خصوم الولايات المتحدة مثل إيران وسورية.
في إطار صراعه مع الولايات المتحدة الأميركية، سمح هوغو للسفر إلى كل أصقاع المعمورة. فقادته جولته الأخيرة قبل المرض إلى كل من الصين وماليزيا، وسورية، و أنغولا، مع توقف في هافانا عند الذهاب و العودة، لكي يزور صديقه كاسترو المريض.و لم تشهد فنزويلا أبدا رئيسا قام بترحال حول العالم كالرئيس شافيز. وعلق صحافي فنزويلي ساخرا عند عودة شافيز يوم 1سبتمبر ، قائلا:”هوغو شافيز في زيارة لكاراكاس”.و التزمت كاراكاس بتسليم 500000برميل نفط يوميا إلى العملاق الصيني بدءأ من 2007و لغاية العام 2010،و من جهتها وعدت الصين باستثمار حوالي 5مليارات دولار في القطاع النفطي الفنزويلي.وفي سورية، أعلن الرئيس شافيز عن بناء مصفاة بترول بقدرة 200000برميل يوميا . وتم توقيع آخر بخصوص الطاقة مع لواندا “الذي يسمح لأنغولا التحرر من هيمنة الشركات النفطية الغربية”حسب ماجاء في إعلان الحكومة الفنزويلية.وخلال حكم شافيز ، أقامت كاراكاس علاقات دبلوماسية مع أحد عشر بلدا إفريقيا.
كان شافيز يطمح إلى تشكيل جبهة اليسار الأكثر تشدداً في أميركا اللاتينية، المتمثل بفنزويلا وبوليفيا وكوبا،و الإكوادور، و نيكاراغوا، قياسا إلى التوجهات اليسارية المعتدلة التي باتت تسيطر على بلدان كالأرجنتين والبرازيل والتشيلي وغيرها، المناهضة الامبريالية الأمريكية ، مستلهما في ذلك من الإرث البوليفاري العظيم للتعبير بشجاعة عن ضمير أمريكا اللاتينية التائقة إلى التحرر والوحدة، قد تجاوز أيضا فيديل كاسترو كقائد لليسار الثوري في أمريكا اللاتينية.و تدريجيا ، وبصرف النظر عن كل وزنه التاريخي ، فإنه ليس الأب العجوز للثورة الكوبية، الذي صمد منذ عام 1959 ، أمام عشرة رؤساء أمريكيين متتابعين ، و حصار اقتصادي فرضته الولايات المتحدة الأمريكية، و إنما الكولونيل الفنزويلي الثائرصاحب الخطاب الناري غير المستنفد ، هو الذي اعتلى قيادة المعر كة ضد الامبريالية الأمريكية، جامعا في طريقه إيفو موراليس من بوليفيا و كل المناهضين للعولمة الأمريكية.
إنه شافيز أيضا، أكثر منه فيديل كاسترو، الذي أصبح الرئيس الذي لا يطاق، مجبرا في ذلك قيادات اليسار المعتدل مثل الرئيس البرازيلي السابق لولا دي سيلفا، و التشيلية ميشال باشليت، على القيام بعدة التواءات ،لإخفاء خلافاتهم عقب القمم الإقليمية، أو مرتكبا أحداثا دبلوماسية مع المكسيك. و إنه شافيز أيضا ، الذي سعى إلى تحويل منظمة التجارة الأمريكية الجنولبية -الماركوسور- إلى أداة مواجهة مع الولايات المتحدة الأمريكية ، التي حضرها كاسترو كضيف في شهر تموز الماضي ، قبل أيام من إصابته المرضية.
لقد عرفت فنزويلا كيف ترسمل لمصلحتها التخلي الديبلوماسي للولايات المتحدة الأمريكية عن أمريكا اللاتينية ، التي أبعدت إلى النسق الثاني بعد أحداث 11سبتمبر 2011 . وأسهمت مواقف شافيز المؤيدة للقضايا العربية على الساحة الشرق أوسطية ، لاسيما عندما شبه العدوان الصهيوني الوحشي فيشتاء 2008-2009 بالهولوكوست النازي، الأمر الذي دعاه إلى سحب السفيرالفنزويلي من الكيان الصهيوني احتجاجا على ذلك العدوان الصهيوني ، و هو موقف لم يجرأ على اتخاذه بعض الحكام العرب، قد عزز من رصيد شافيز الانتخابي على صعيد العالم العربي و الإسلامي.و لا ننسى أن فنزويلا عضو في الأوبك التي تضم سبع دول عربية.
و كان هوغو شافيز الكولونيل في سلاح المظليين قام بمحاولة انقلاب فاشلة في فبراير عام 1992 ، ليضع حداً لثلاثين سنة من هيمنة حزبي الحركة الديموقراطية (اشتراكي ديموقراطي) وكوبايي (الديموقراطي المسيحي)، اللذين كانا، في هذه البلاد المنتجة للنفط، قد أوصلا الفنزويليين الى ما تحت عتبة الفقر. وبعدما أطلق سراحه من السجن، وصل هذا المتمرد بالطرق الديموقراطية الى السلطة في ديسمبر عام 1998. وقد سبقت إعادة انتخابه في 30 يوليو عام 2000 تعديلات جذرية في الدستور، تمت المصادقة عليها عبر عملية استفتاء شعبي. وفي الاجمال، فقد انتصر السيد شافيز وتغيّرت القيادة الفنزويلية بصورة سلمية.
ومنذأن تولى رئاسة الدولة الفنزويلية ، تقود حكومة تشافيز ثورة لا مثيل لها: «فهي ليست اشتراكية ولا شيوعية، كونها متشكلة في إطار الرأسمالية، لكنها جذرية في حضها على تغييرات أساسية في البنية الاقتصادية»، بحسب ما يوضح الوزير في رئاسة الجمهورية رافييل فارغاس. فقد عملت كراكاس أيضاً، عبر إعادة إحياء دور منظمة الدول المصدرة للبترول (اوبيك)، التوصل الى سياسة بترولية تسمح بالحفاظ على سعر النفط الخام على مستوى أعلى من 60 دولاراً للبرميل الواحد، مثيرة بذلك الكثير من الامتعاض في واشنطن، كما انها ضاعفت من تصريحاتها ضد العولمة الليبيرالية الجديدة داعيةً الى عالم متعدد القطب، معارضةً بذلك سعي الولايات المتحدة الى الهيمنة.
ونظرا ً لحرصه على الدفاع عن «السيا دة الاقتصادية» لفنزويلا ، فقد تشدد الرئيس شافيز مع الشركات النفطية المتعددة الجنسية ، في إطار معاودة التفاوض حول عقود الإستثمار في سبيل تأمين مشاركة بالأكثرية للشركة الفنزويلية الوطنية للنفط.و تتموقع فنزويلا في فئة البلدان ذات الدخول المتوسطة ،إذ بلغ الدخل الوسطي للفرد فيهانحو 4000دولار. بيد أن الثروة ليست موزعة بشكل متساوٍ، فهناك 70% من أصل 25.7 مليون فنزويلي يعيشون تحت خط الفقر، بينما لم يكونوا إلا 30% في هذه الوضعية عام 1975.والحال هذه، تشير المفوضية الاقتصادية لأمريكا اللاتينية في آخر تقرير لها حول البانوراما الاجتماعية، أن معدل النفقات الاجتماعية للفرد انتقل من 72 إلى 132دولار في عام 2004، حسب الأرقام الرسمية بتقدم قوي جدا ، لا سيما في قطاع التعليم . وفضلا عن ذلك ، فإن البرامج الاجتماعية المخصصة للتعليم و الصحة ودعم المواد الغذائية ، و الممولة من قبل فائض الريع النفطي ، مسّت 16 مليون فنزويلي.وقد أبدت منظمة اليونسكو ارتياحها بسبب القضاء على الأمية . كما أن البنك الدولي أصبح يشيد من الآن فصاعدا ببرنامج الطب عن قرب الذي مكن سكان الأحياء الفقيرة من المعالجة المجانية ، بفضل تواجد آلاف الأطباء الكوبيين.وتشير الأرقام إلى تراجع طفيف في نسبة الفقر، الذي يضرب ثلثي السكان .
وكان الاستقطاب المتمحور حول شخصية الرئيس الراحل شافيز يخفي المواجهة العميقة بين مشروعين للمجتمع الفنزويلي .. النقاش الحقيقي لا يزال يتعلق بدور الدولة- المسألة الجوهرية في بلد مثل فنزويلا يعيش من النفط- و طبيعة الديمقراطية.ودافع شافيز عن «زيادة دور الدولة» ،والديمقراطية التشاركية ، التي يعتقد أنها تفتح باب المشاركة السياسية للطبقات الشعبية المحرومة، في حين أنهما تنفران أنصار النموذج الليبرالي على الطريقة الأمريكية المعتبر أكثر حداثوية.
كاتب تونسي