زمن مضى, تبدلت البلاد ومن عليها، وفاضت الصحراء بنفطها اللعين, فتشكلت الكارثة التي أخذت فلسطين من أحضان العرب، وهم لاهون لا يدرون ماذا يفعلون، بعدها قسم الوطن الكبير إلى أوطان متنافرة,لا أخوة حقيقية تجمعهم أو تبلسم الجراح في الأزمات الصعبة، ولا مشاعر قومية تهدي إلى سواء السبيل، بل كل يغني على ليلاه، حيث حب السلطة من المكرمات، وكنز المال من الخصائل الحميدة، التي تجعل الحاكم الفرد مأخوذا بالمؤامرات المهلكة والمدمرة.
في ظل هذه الأجواء الملبدة بضبابية العقول, وبكل أصناف العبودية والتسلط والقهر, انبثقت شعلة الضوء للبعث العربي الاشتراكي، الذي التف حوله عطاشى الأمة من طلاب الوحدة التواقين إلى الحرية والديمقراطية، التي تماهت في عقولهم شعشعانية أفكار خلاقة، تكوكبت بإيديولوجية شعائر قومية، عربية التوجه، انتفضت كالضوء في ليالي الظلمة الحالكة التي انتهكت حقوق الإنسان في زمن الاحتلال العثماني، ومن ثم في زمن الاحتلالين الفرنسي والإنكليزي ووعد بلفور اللعين، وجعلت العقل متماهيا مع الحلم العربي الوحدوي، عبر مشهديات مفصلية في مضامينها المنفتحة على تطلعات الشعب العربي الطامح إلى تفاعل الحضارات والثقافات، ومسارات الحرية والاشتراكية.
كان لشهر آذار في ما مضى نكهته الموسمية, التي أمسكت في الثامن منه حبائل الصوت المندى بعبير الفجر المرتاح على مهود البروق ومحطاتها الرؤيوية، التي شكلت المفصل المتحرك لخواطرنا المترسلة عبر كل الدروب حكايات مجيدة، بزغت من صلبها شعاعات الثورة الحقيقية، التي انتصرت على القهر والاستعباد والفقر والمرض والجهل المنظم، وعلى كل المعوقات التي رسمها الحاقدون أسلاكا شائكة في مسار التقدم والتطور والارتقاء، إلى أن غرقت الضمائر في متاهات المصالح الشخصانية، التي استسلم أصحابها لأعداء الوطن، انطلاقا من خضوعهم للشعارات المستوردة ،التي أرادوها، بعد خمسين عاما من التقدم والتطور والنمو في سورية، أداة للتخريب والتدمير والقتل والتفتيت.
لهذا ترانا لا ننسى في شهر آذار، الإشارات الملونة التي ارتسمت على طريق العقل، استنهاض همم وطاقات من أجل نهضة سورية العمرانية والبشرية,ومن أجل صمودها على مبادئها القومية في التصدي للعدو الصهيوني، عبر دعم المقاومة التي أثقلت سورية منذ عامين، بحرب كونية تدميرية وتفتيتية، انطلقت شراراتها المعللة بالاصلاحات وحقوق الإنسان، بشراء الضمائر بأموال النفط العربي، وببث مفاعل الفتنة المذهبية، واستنفار وسائل وعناصر التطرف الديني، عبر خطط ممنهجة، رسمت شرورها أصابع المستعمرين الجدد، ومنح شرف تنفيذها إلى من هم في دائرة الإخوان والأشقاء.
وما سمعناه في الاجتماع الأخير لوزراء الخارجية العرب في القاهرة، والموقف المعادي لما تم طرحه، بعقلانية ووطنية سليمة، من قبل وزير الخارجية اللبناني عدنان منصور، يوضح بصورة مكشوفة عملية المؤامرة التي تتعرض لها سورية، والتي استعمل مسببوها كل وسائلهم الجهنمية من أجل القضاء على وحدتها الوطنية المتأصلة في نفوس بنيها وقيادتها المناضلة الحكيمة.
لقد أصبحت الكلمة البيضاء في شهر آذار ممنوعة من الصرف، وأصبحت المبادئ القومية والعربية في الدرك الأسفل, وأصبح طريق البعث مظلما في نظر البعض، أولئك الذين ضاعت ضمائرهم على خطوط النار في لحظة سوء، فتآمروا على شطب التاريخ المجيد لحكايات البعث العظيمة، التي انطلقت قيمها من حفافي الحارات السورية الفقيرة الملبدة بالقهر.
لهذا عملوا جاهدين، وما زالوا مستمرين في غيهم، من أجل طمس صحوة المسارات التي شهدتها سورية طيلة الفترة الماضية من حكم البعث المطعم بعافية العمل المنتج الخلاق، وبارتسام الومض الموعود عقيدة قومية ثابتة لا تزحزحها العواصف مهما اشتد أوراها.
خمسون عاما أهلت على سورية بدرا مشعا في ليالي الغفلة التي هزم فيها كل الذين استباحوا ثروات البلد المادية والبشرية، لهذا تمدد البعث طريقا معبدا بالأمن والأمان، جعل البلد بثبات الحق وانهزام الباطل، واستنهاض السواعد المقاومة والفاعلة، وتعزيز الوحدة الداخلية، وبناء الجيش القوي ذي العقيدة القتالية الوطنية التي لا لبس فيها ولا ارتهان ولا ارفضاض، حيث أثبت الجيش العربي السوري، من خلال قدراته القتالية الهائلة، من مواجهة قوى الاستكبار العالمي والحرب الكونية، التي أحاطت سورية,منذ عامين, بمؤامراتها الظلامية والشريرة.
لكن كما انتصرت سورية على الغزاة المستعمرين سابقا، ستنتصر، وبدءا من شهر آذار هذا، على القوم الظالمين، وسيبقى لشهر آذار حكاياته المجيدة، وسيعود أحرار الأمة جمعيهم إلى إطلاق نشيد الحرية الذي هو بعث العرب المتدثر بعروبة سورية، حيث وحدها سورية الباقية أبد الدهر عرين هذه الأمة وسؤددها والمجد من المحيط إلى الخليج، ووحدها الحاملة رجاء قيامة الفصول الربيعية بأحلامها المزهوة بالعروبة النابضة في حاراتها وشوارعها ومدنها وقراها.. بالحق.. والحقيقة.