ولكنه سرعان ما يتحول إلى شيء من الماضي بالنسبة للفلسطينيين والإسرائيليين على حد سواء, والدليل على ذلك هو أن محور الاهتمام, وحتى قبل أن يتم رحيل آخر مستوطن من غزة, قد تحول إلى ما سيحدث بعده, وبما أن عام 2006 سيكون عام انتخابات في فلسطين فإنه من غير المرجح أن تقدم إسرائيل أو الولايات المتحدة على اتخاذ خطوات جريئة, وسيكون التحرك البطيء على الصعيد الدبلوماسي هو الطريق الأكيد لتجدد المواجهات بين طرفي الصراع.فهناك تحديان ضخمان يحدان من تنفيذ ما يمكن أن يكون مجدياً خلال الشهور القادمة, كما يقول -روبرت ماللي- مدير برنامج الشرق الأوسط في مجموعة الأزمات الدولية والمساعد الخاص للرئيس السابق بيل كلينتون للشؤون العربية-الإسرائيلية.
التحدي الأول هو -فجوة التوقعات الكبيرة- فعلى الرغم من انسحاب إسرائيل من غزة إلا أن هناك نوعاً من عدم التيقن باتجاه نوايا رئيس الوزراء الإسرائيلي شارون وما يغذي هذا الشعور لدى الكثيرين هو ماضي شارون كصقر من صقور إسرائيل والتضارب الذي يتسم به خطابه, فهو يسعى إلى إقناع المجتمع الدولي أن إخلاء غزة هو الخطوة الأولى في سلسلة الخطوات ثم يقول بعد ذلك لمؤيديه من الجناح اليميني الإسرائيلي إن هذا الانسحاب هو آخر الانسحابات.
بصرف النظر عن نوايا شارون فهو بلا شك يريد أن يفعل القليل وببطء شديد, فالانسحاب من غزة في نظره ليس خطوة يراد بها تمهيد المسرح للتوصل لاتفاقية لإنهاء الصراع, حيث لا يؤمن هو بذلك, أو حتى عودة إسرائيل إلى ما وراء حدود عام 1967 وهو ما يرفضه تماماً.
والكل يعرف أن جميع المحاولات الفلسطينية للتنسيق مع إسرائيل بخصوص تنفيذ عملية الانسحاب قد فشلت لأن شارون أراد لها أن تكون أحادية الجانب, كونها عملية إعادة انتشار للقوات الإسرائيلية, حيث إن جميع المعابر البرية والبحرية والجوية ستبقى عملياً بأيدي إسرائيل, والقطاع الذي انسحب شارون منه لم يكن في يوم من الأيام مطمعاً لأي حكومة إسرائيلية عمالية كانت أم ليكودية.
وحكومة شارون هي أول حكومة إسرائيلية تقوم بإخلاء مستعمرات مقامة على الأراضي الفلسطينية, وهي أول مرة في تاريخ إسرائيل يقوم حزب يميني -الليكود- الحالم دوماً بإقامة -إسرائيل الكبرى- بالانسحاب من أراض يعتبرها جزءاً من أرض إسرائيل التوراتية وقد أصبح الادعاء بأن أرض فلسطين هي -أرض الميعاد- التي وعد اليهود بها (وبالتالي لا يجوز التنازل عنها) أصبح ادعاء باطلاً وسقط مع الانسحاب من القطاع, وبشكل مغاير تماماً, تشير جميع الدلائل إلى أن إخلاء مستعمرات القطاع قابله تكثيف -الاستيطان- في المناطق المحيطة بالقدس والضفة الغربية, فقد كشف تقرير -منظمة السلام الآن- الإسرائيلية النقاب عن أن الربع الأول من عام 2005 سجل ارتفاعاً بنسبة 83 بالمئة في عدد الوحدات الاستيطانية التي تسرع في إقامتها مقارنة مع الفترة نفسها من السنة الماضية, ولا يخفي شارون نواياه أن الانسحاب من القطاع وإخلاء مستعمراته وأربع مستوطنات أخرى شمال الضفة لا يشكل خطوة أولى تليها خطوة ثانية وأن -الاستيطان- سيتكثف في الضفة ولا سيما بالمجمعات الاستعمارية الكبرى.
أما مستشار شارون المقرب (دوف فايسغلاف) فكان أكثر وضوحاً عندما قال في تشرين أول العام الماضي إن شارون اتخذ مبادرة الفصل مع الفلسطينيين (لتجميد العملية السياسية لفترة غير محدودة).
وأضاف فايسغلاف: إن ذلك (يمنع إقامة دولة فلسطينية وإجراء مباحثات حول مسألة اللاجئين والحدود والقدس).
ويقول الخبير الإسرائيلي يوسي الغير: (إن شارون لم يطلق خطة للتوصل إلى السلام لأنه يعتقد أن السلام مستحيل ويجب عدم انتظار إحراز تقدم بعد القيام بهذا الانسحاب وعلى العكس من ذلك سيتشدد شارون لأنه يتوجب عليه إعطاء ضمانات لليمين إذا أراد البقاء على رأس حزبه الليكود بعد أن فرض عليه خطته).
وشارون هو أول من حصل على دعم أميركي لترسيخ (حقائق فوق الخط الأخضر), حيث صرح بحضور رئيس الدولة موشيه كاتساف: (بفضل انسحابنا من غزة, اعترفت الولايات المتحدة بحقنا في الاحتفاظ بالكتل الاستيطانية في الضفة), مع احتمال ضم هذه إلى إسرائيل وربما مبادلتها بأراض مأهولة بكثافة بفلسطينيي مدن المثلث الشمالي وأم الفحم ووادي عارة, وهكذا يريح شارون إسرائيل من خطر الكابوس الديمغرافي الفلسطيني الذي يؤرق حكام إسرائيل منذ قيامها.
بالإضافة إلى ذلك ستحاول إسرائيل تطوير منطقة النقب عبر إسكان مستوطني القطاع فيه وتقديم الحوافز والتشجيعات لهم عبر استجلاب الأموال والمنح من الولايات المتحدة والبنك الدولي, وشارون متأكد من أن الانسحاب هذا يعزز مكانته ومكانة إسرائيل دولياً ويزيد من فرص مفاقمة الخلاف الفلسطيني-الفلسطيني فتقع مواجهات يأمل شارون أن تقود إلى حرب أهلية فلسطينية -منشودة- منذ مدة.
إن مثل هذا الانسحاب أكسب شارون سمعة دولية جيدة, فوصفه الرئيس الأميركي بوش أنه -رجل شجاع- كما وصفه الرئيس الفرنسي وغيره بأحسن الأوصاف, واستثمرت الحكومة الإسرائيلية والهيئات الصهيونية الانسحاب ووظفت كافة أجهزتها الإعلامية والسياسية لإقناع العالم بامتثالها لمتطلبات السلام.
أما في فلسطين المحتلة, قد يخلق نجاح خطة الانفصال مستوى عالياً من التوقعات لدى الجانبين, فالإسرائيليون كما تشير استطلاعات الرأي الإسرائيلية, يتوقعون أن يسفر الانسحاب من القطاع عن فوائد يتحول معها -وقف الانتفاضة- إلى ظاهرة دائمة, فيتم استئناف العملية السياسية بما يؤدي إلى تسوية النزاع مع الفلسطينيين, وهناك فريق عارض الانسحاب في قرارة نفسه ولكنه اضطر إلى تأييده جراء الظروف السياسية التي أحاطت بالخطة.
ويتطلع هؤلاء إلى الاكتفاء بالانفصال ذاته بدعوى أن إسرائيل مرت بصدمة نفسية وأنها قامت بما عليها, لذلك يجب أن تتطلع إلى البقاء في الوضع الجديد حتى وإن كان في جوهره وضعاً انتقالياً لفترة طويلة جداً, ويؤكد شارون زعيم هذا الاتجاه أن التقدم في تطبيق -خارطة الطريق- ليس اتوماتيكياً وإنما هو منوط بتنفيذ الفلسطينيين لكامل التزاماتهم ما يعني حسب التعبير الإسرائيلي -التفكيك الكامل للبنى التحتية للإرهاب- أي إثارة حرب أهلية فلسطينية, وبمقدور الجانب الإسرائيلي الادعاء دائماً أن الفلسطينيين لم يفوا بهذا الالتزام.
أما دولياً فإن الأطراف الفاعلة وعلى رأسها (الولايات المتحدة والاتحاد الأوروبي) أيدت خطة الانفصال شرط أن تكون مرحلة في عملية متكاملة وليست أمراً قائماً في حد ذاته, وبعد تنفيذ الانفصال سترغب هذه الأطراف برؤية المفاوضات بين الجانبين الإسرائيلي والفلسطيني تتجدد, وفي حدوث تقدم بموجب مسار خارطة الطريق, وواضح أن معظم أطراف -الرباعية- متمسكون بهذا المطلب مع أن لذلك تأثيراً محدوداً جداً على مواقف الطرفين حيث إن اللاعب الرئيسي لا يزال الولايات المتحدة, وتظهر الإدارة الأميركية الحالية رغبة في العمل قدر المستطاع لتحسين صورتها السلبية في العالم العربي وذلك بعدما أدركت أوساطها حجم الضرر الذي تلحقه هذه الصورة بتحقيق الأهداف السياسية للولايات المتحدة في العراق والشرق الأوسط عموماً, ومن الواضح لصانعي السياسة الأميركية أن سياستهم تجاه الصراع العربي-الإسرائيلي قد أسهمت بدرجة كبيرة في بلورة صورتهم السلبية بالعالم, لذا فقد تدفع التطورات الأخيرة إدارة الرئيس بوش إلى مزيد من التدخل المباشر في هذا الصراع, وخاصة أنه ليس ثمة اعتبارات انتخابية أميركية في هذه الحالة.
وبالمقابل يتوقع الفلسطينيون تحسناً ملموساً في ظروف معيشتهم اليومية من خلال إزالة القيود عن حرية تنقلهم واستعادة القانون والنظام, وتحسن أوضاعهم الاقتصادية وتجدد فرصة تحقيق تطلعاتهم الوطنية الأساسية بإقامة دولتهم المنشودة المستقلة هذا ما لم يؤد فك الارتباط الشاروني إلى زيادة شهية الفك المفترس الإسرائيلي سواء بقي شارون أم ذهب حيث البديل نتنياهو, ومن هم أسوأ من شارون?! الفترة القادمة ستكشف ذلك.