وعليه فقد صار الإنسان نفسه يتعرض لأذية ما حوّله هو ذاته من عناصر في الطبيعة جعلته, وسوف تجعله أكثر تأثراً بالنظام الجديد للطبيعة المصنوعة, ولا سيما في البيئة بنوعيها عبر ما فرضته الاستخدامات الجديدة لهندسة الجينات,وعلاقات التدخل في التصميم الممكن للثورة البيولوجية.
وخاصة المتعلق بعلم الأعصاب والدماغ بما قد يؤدي إلى تغيير مقصود في الطبيعة البشرية لابد أن يتوازى معه خطر ما على طرائق التعايش على الكرة, أو على أسلوب الحياة الإنسانية فيها.
والغريب في هذا الحال, ليس فقط الاستشعار الذي يتمتع به أصحاب العقول العلمية الاختصاصية وحسب بل أن يبادر مفكر مثل فرانسيس فوكوياما الأميركي من أصل ياباني صاحب نظرية نهاية التاريخ تلك التي طرحت في أعقاب مرحلة المتغيرات الدولية التي شهدتها الحقبة الأخيرة من القرن العشرين المنصرم, وجاء فيها أن العالم بعد خروج النظام الشيوعي من حلبته, وشيوع عقيدة السوق الرأسمالية الحرة, قد دخل نهاية التاريخ, وهذا يعني أن النظام الدولي الجديد هو التاريخ الجديد لنظام العالم الموحد في ظل عقيدة السوق الحرة.
وإذا كان المفكر فوكوياما في كتابه عن نهاية التاريخ الذي أصدره عام 1989 قد أحدث ضجة دولية كبيرة باستفزازه الفكر العالمي, والمفكرين المغايرين له في قراءة التاريخ, وتحديده, وتعيين سيروراته وصيروراته, فهذا هو مؤخراً وبعد عقد ونصف من الزمان يطالع الفكر العالمي بنظرية جديدة هي اعلانه عن نهاية الإنسان.
وبين نظريته في نهاية التاريخ, ونظريته الجديدة في نهاية الإنسان يواصل فوكوياما تصعيد استفزازه للعقل العالمي بإعلانه الجريء عن أن الطبيعة الإنسانية أصبحت مهددة, وذلك في كتابه الجديد الذي صدر عام /2004/ بعنوان:
مستقبلنا ما بعد البشري انعكاسات الثورة البيولوجية, التكنولوجية على الإنسان ومن المعروف أن فوكوياما صاحب التكوين الفلسفي, الاقتصادي, السياسي كان, ولا يزال قريباً من تيار المحافظين الجدد.
وقد ساهم معهم في بلورة المشروع الفكري, والسياسي المعروف باسم: مشروع القرن الأميركي الجديد الذي صدر عام 1997 وقدم حينها برنامجه للرئيس كلينتون ولكن الرئيس لم ينتبه طالما أنه كان في نهاية ولايته.
واللافت في الأمر أن فوكوياما, في كتابه الجديد هذا, قد عبر عن قلقه من آخر تطورات العلوم البيولوجية لجهة علم الأعصاب, والدماغ حيث رأى أن تطبيقات هذا العلم على الإنسان ستؤدي إلى تغيير في طبيعته بما سيكون له كبير الأثر على النظام السياسي للإنسان نفسه بانعكاسات اللامساواة بين البشر, والتمييز العنصري والمزيد من الظلم والقهر.
في كتاب فوكوياما المعني يستعرض المؤلف شيئاً عن علم الدماغ, وتركيبه, وعن علم الأعصاب, وعن العقاقير الطبية, وتأثيره على المرء, وكيفية تحكمها بسلوكه, ثم يتحدث عن الكائن الإنساني, وماهية الطبيعة البشرية التي تميزه, ومن ثم خصوصيته.
ويتعرض -أيضاً- لحقوق الإنسان, وطبيعته المخصوصة, وكرامته, ويخلص إلى نتيجة مفادها أن طبيعة الإنسان اليوم, وكرامته أصبحتا بحكم المهددتين بفعل الثورة التكنولوجية, والبيولوجية الحديثة.
ثم يطرح فوكاياما سؤاله: ما العمل حتى يتم تحاشي خطورة هذه الثورة في حقل البيولوجيا التي تريد صنع الإنسان في أنابيب اختبار, أو التي تمهد لاستنساخه?!
ويرى فوكوياما أن العلم أصبح يتجاوز إلى حدود اللعب بالصبغيات الوراثية للإنسان, ولابد أن يكون بهذا مس ما بالإنسان ذاته.
وما يريد فوكوياما أن يبديه في كتابه الذي نحلل فيه حول مستقبلنا ما بعد البشري هو طريقته في التنبؤ حول طريق المستقبل بملاحظات محسوسة لذلك فهو يجزم بأن علم البيولوجيا, والوراثة بشكل خاص سيكون له نتائج فلسفية ضخمة, حيث سيؤدي إلى تغيير طبيعة الإنسان التي نعرفها اليوم بشكل لابد أن يكون انعكاسه يمثل خطورة على الإنسان نفسه.
إذ يرى أن العلم بدون وازع أخلاقي, أو ضمير, أو وجدان إنساني قد يسوق إلى الكارثة وهذا ما يتطلب من البشرية الحاضرة أن تلتفت إلى نتائج العلم البيولوجي المخصوص بتغيير طبيعة الإنسان وتركيبته الداخلية.
كي لا يظهر إنسان جديد, إنسان العقاقير الطبية التي تزيد الثقة المفرطة, أو التركيز العالي, أو الذكاء الشديد, وما إلى ذلك من تقليل المرض,, وتطويل العمر بما يحول الإنسان من إنسان طبيعي إلى إنسان اصطناعي محض, ويجعلنا -كبشرية- ندخل مرحلة ما بعد الإنسان, أو ما بعد إنسانية الإنسان, أي مرحلة الإنسان الاصطناعي الذي تتحكم فيه العقاقير, أو التلاعبات الوراثية غير المضبوطة بخلق محدد.
ومن الواضح أن فوكوياما في هذا الكتاب ينوس بين التشاؤم, والتفاؤل فيما يخص مستقبل الإنسان, حيث يعلن مرة عن أن البشرية قادرة على التحكم في علم البيولوجيا العصبية, ثم من جهة أخرى يعود ليقر باستحالة هذا التحكم, فالتحكم بالنسبة له يضمن المستقبل, وافتقاد التحكم سيصل بالبشرية إلى الكارثة الحقيقية, والمصير المجهول.
وبالمحصلة يدعو فوكوياما إلى ضرورات التحكم بالعلم, ومنعه من التدخل في أشياء مقدسة كالطبيعة البشرية والصبغيات الوراثية, أي الجينوم أو القانون الوراثي للإنسان, حتى تتم ضمانة كرامة الإنسان.
وينظر في نهاية المطاف إلى أن الحكمة الطبيعية للإنسان لابد أن تتحرك لمنع وقوع الكارثة, فالإنسان دوماً تدفعه غريزة الطبيعة للتجاوز, والتأقلم, ووقف النوازل التي يرهص تهديدها لوجوده بوجه عام.
وفي نهاية المسعى إذا كان استشراق فوكوياما يعكس حرصه -كمفكر فيلسوف- على مصير العالم, وخاصة الجنس البشري فيه, في تحولات عالمية متسارعة أخذت أبعادها الأساسية صفة (الما بعد) مثال:
مابعد الشيوعية, ما بعد الحداثة, ما بعد الليبرالية, مابعد الصهيونية, ما بعد البشري..الخ هذه (الما بعدات) ألا يفترض فيها أن تحدد السياسة لدى القطب الوحيد الذي يدير الحكومة العالمية, ويعمل على عدم السماح بتشكل عالم متعدد الأقطاب, حتى تكون السياسة الكونية حريصة على شكل التنمية, والنمو على هذه الكرة بما تصبح معه عناصر الحياة الإنسانية محصنة بالضمير العالمي, ومرشدة بقوة العدل, والحق الدوليين اللذين يضمنان سير العالم نحو عالم الرفاه, والحرية, والتعاون, والتسامح, والشراكة العالمية باتجاه تنظيم حقوقي سياسي عادل للنظام الكوني العولمي المزمع.
إن البشرية -كما تحلم بتقدم العلم الذي يحل لها قضايا الوجود الإنساني ومتطلباته- تحلم بسياسات بشرية, إنسانية تنطلق من مصالح الكل العالمي على سطح كوكب واحد.
متى سنتحول مع الفلاسفة, والمفكرين إلى استشعار الخطورة بالزمن المناسب? وإلى أن نكتشف الإجابة على سؤالنا هذا, ونتذاكر بمقولة الكاتب برونو تيرتريه, من مؤسسة الأبحاث الاستراتيجية في باريس حين قال: إن الحليف الجيد لا يتمثل -في قوله وسلوكه- ب (إفعل ما تريد), بل هو الذي يتمثل بما يتوجب فعله.