تصدر عن مؤسسة الوحدة للصحافة و الطباعة و النشر
طباعةحفظ


من مكتبة الفضاء..بينما ينام العالم..(شهقنا وزفرنا غبار الأشلاء..)

ثقافة
الأربعاء 17-8-2016
هفاف ميهوب

(في قديم الزمان، قبل أن يخطو التاريخ فوق التلالِ مبعثراً الحاضر والمستقبل، قبل أن تُمسك الريح بالأرض وتهزّها نازعة اسمها وطابعها، قبل أن تُولد (آمال).. وُجِدت قرية صغيرة شرقي حيفا، عاشت بهدوء على التينِ والزيتون، على الحدود المفتوحة وأشعة الشمس).

إنها مقدمة الرواية الأشهر والأقدر على وصفِ مأساة الشعب الفلسطيني الذي عانى ما عانى من التهجير والظلم والموت والألم.. الشعب الذي استمدّت الكاتبة الفلسطينية (سوزان أبو الهوى) مفرداتها من معاناته التي كانت أيضاً معاناتها، ومُذ عام 1967 وانضمامها وأسرتها إلى اللاجئين ممن تشردوا في أنحاءِ الأرض بعد استيلاء العدو الإسرائيلي على أرضهم، الأرض التي غادرتها إلى الولايات المتحدة الأمريكية التي لا تزال تعيش فيها وتحمل جنسيّتها.‏

حصل ذلك (بينما ينام العالم) وهو اسم الرواية التي حمّلتها الكاتبة قصة أربعة أجيال لعائلة فلسطينية امتدت معاناتها من 1948 إلى 2002، ومن مجزرة جنين إلى النكبة فالنكسة التي تلاحقت أحداث الرواية بعدها، الأحداث التي كانت بطلتها (آمال) الحاملة للجنسية الأمريكية، والتي وكأنها الكاتبة التي بدأت تحكي: (عن تجريد المرء حتى العظام من إنسانيته، وإلقائه في مخيمات للاجئين لا تصلح حتى للفئران.. عن تركه دون حدود أو وطن أو دولة، وفي الوقت الذي أدار العالم فيه ظهره ليشاهد أو يهتف لابتهاج المغتصبين، وهم يعلنون دولة جديدة اسمها إسرائيل).‏

نعم، هذا ما تحكيه الرواية التي تدور تفاصيلها فوق أرض مزقتها المؤامرة البريطانية - الصهيونية التي استبدلت شعب هذه الأرض بشعب لا أرض ولا وطن له، شعبٌ جعل كل فلسطيني يطلُّ على المشهد الجديد، حيث أبراج المراقبة الإسرائيلية التي بُنيت على عجل، ليكون شعوره هو شعور الكاتبة التي أعلنتْ:‏

(شعرتُ كأن سنوات تُحشر في أسابيع، حلمٌ رهيب لا نهاية له قد هيمن، الطعم الترابي للفناء، رسخت تلك الأيام نفسها في ذاكرتي، كذرَّات غبار دموي مع رائحة كريهة لكائنات متعفّنة وتربة محروقة، لقد انتقلنا ولكن، إلى اللا مكان.. لقد شهقنا وزفرنا غبار الأشلاء فلم نتنفس).‏

لا شكّ أنه الشعور الذي لازم كل فلسطيني امتلكته أرضه كما امتلكت الكاتبة و(بطلتها آمال) وبغض النظر عمَّن يحتل أرضها، ولأنَّ: (لأن ترابها هو من يحرس جذوري، وعظام أسلافي، أنا ابنة الأرض والقدس تؤكد طمأنينتي إلى هذا اللقب غير القابل للتصرّف أكثر بكثير من كلِّ سندات الملكية المُصفرّة، وسجلات الأراضي العثمانية، والمفاتيح الحديدية لمنازلنا المسروقة، أو قرارات الأمم المتحدة).‏

كل هذا وأكثر، أكثر في المعاناة والتشرد والموت والطرد القسري الذي عانى منه الشعب الفلسطيني، الشعب الذي تحكي الرواية عن قصة قيام أحد جنود العصابات الصهيونية بسرقة أحد أطفاله، ومن أمه التي لم يُبال المحتل بما سيتركه لديها من وجع فقدانها لطفلها، لطالما كان حقده وجشعه قد بلغا به حداً جعله يهدف من فعلته إلى أخذِ الطفل إلى زوجته التي لا تُنجب بسبب تعرضها في طفولتها للمذابح النازية..‏

ويكبر الطفل، ويتحول إلى جندي إسرائيلي دفعتهُ التربية الصهيونية التي تلقاها من سارقيه لصبِّ جام غضبه وعدوانيته على الشعب الفلسطيني الذي مارس بحقه كل صنوف التعذيب التي أكثر ما طالت، شقيقه (يوسف)..‏

من هنا تتوالى الأحداث.. قصصُ حبّ وزواجٍ لم تكلّل إلا بالموت المأساوي، قصصُ قتل وطرد ومذابح كانت ضحيتها زوجة (يوسف) التي شقّوا بطنها وقتلوا طفلها، يوسف الذي ومن شدّة ما حمل صمت الأحلام الميتة، ومأساة عائلته وزوجته، قرر الانتقام ففعل، وعندما قتل ثلاثة وستين وأصاب العشرات، بالشاحنة التي كانت مليئة بالمتفجرات عندما اقتحم بها السفارة الأميركية في بيروت.‏

أيضاً، كانت (آمال) ضحية، فقد فقدتْ أسرتها أولاً ومن ثمَّ زوجة شقيقها، ومن ثمّ زوجها الطبيب الذي كانت قد قرّرت وإياه، وقبل أن يموت بسبب القصف الإسرائيلي للمخيمات.. كانت قد قررت وإياه إنهاء زيارتها إلى بيروت والعودة إلى حيث تقيم في الولايات المتحدة الأمريكية، الدولة التي شعرت منذ وطأتها أول مرة بما كتبته:‏

(شعرتُ بالنقص من الشهور الأولى التي عشتها في أميركا، تخبّطت في هذا العالم المفتوح الذي لانهاية له، حاولت الاندماج، لازمتني حالة عدم انتماء إلى (دولة) مثل رائحة عطر سيئ، أما اسم عائلتي العربي، فقد ربط بيني وبين عمليات اختطاف الطائرات التي راجت في السبعينيات)..‏

إنها جذورها، الجذور الي تضرب بعمق شديد في الفقدان، وإلى درجة إحساسها بأن الموت يعيش معها كأنه أحد أفراد أسرتها،‏

هذا ما أحسّته، وقد زاد من معاناتها أنها باتت موضع ريبة في بلدٍ سرعان ما تناقلت وسائل إعلامه، خبر التفجير الإرهابي الذي قام به شقيقها. (يوسف) الذي لم تتوقف ذكرياتها وإياه عن جعلها تخاطب نفسها:‏

(ذهب أخي يوسف إلى غير رجعة، اختار الهاوية الملتهبة التي ما زلتُ أجثمُ أمامها وهبط على شاطئ الانتقام الهادئ والأنيق، لقد ترك روحه تهيم في صبرا وشاتيلا، حيث تمدّدت زوجته وابنته في مقبرة جماعية تحت أكوام القمامة، في ظل حصانة قاتليهم، وفي إطار الوعود الزائفة للقوى العظمى، وتحت لا مبالاة العالم تجاه الدم العربي المسفوك).‏

كل هذا (بينما ينام العالم).. حتى عندما دفنت (جنين) ثلاثاً وخمسين جثة مع بقاء المئات في عداد المفقودين.. كل هذا: و(التقرير الرسمي للأمم المتحدة الذي أعدّه رجال لم يزوروا (جنين) ولم يتحدثوا إلى الضحايا ولا إلى المعتدين، خلصَ إلى أنه لم يحدث أي مذبحة، وقد تردّد هذا في عناوين الصحف الأمريكية: (لا مذبحة في جنين... مسلحون فقط هم من قُتِلوا).‏

إضافة تعليق
الأسم :
البريد الإلكتروني :
نص التعليق:
 

 

E - mail: admin@thawra.sy

| الثورة | | الموقف الرياضي | | الجماهير | | الوحدة | | العروبة | | الفداء | | الصفحة الرئيسية | | الفرات |

مؤسسة الوحدة للصحافة والطباعة والنشر ـ دمشق ـ سورية