ومن أبرز الإسهامات في تلك النواحي ارتهان المؤثرات بالمتغيرات الإيديولوجية التي شهدتها بولونيا منذ ولادتها ليتناول الأدب البولوني خاصة في روايته المعاصرة تلك المتغيرات في أيام الملكية والجمهورية وفي ظل احتلال نابليون للبلاد وفي زمن الشيوعية.
وقد ترك اقتسام بولونيا عام 1772بين كل من بروسيا والنمسا وروسيا ثم بين السويد وفرنسا بصمات عميقة في الثقافة والأدب البولوني كما دخلت اشتقاقات ومفردات من اللغات المجاورة إلى اللغة المحكية والمقروءة المكتوبة.
فها هو الأديب البولوني المعاصر مارك كراجيفيسكي يكشف في فريسكته الروائية المؤلفة من خمسة أجزاء «حصن بريسلو» الوجه الآخر لتلك التأثيرات وما حملته لبلاده من مستجدات لا تزال حية إلى اليوم حيث اللغة الألمانية وثقافتها حاضرة أكثر من جاراتها على الساحة الأدبية البولونية فمدينة بريسلو بطلة تلك الخماسية تحمل اسمين «بريسلو» وكانت بروسيا الواقعة في وسط أوروبا وتطل على نهر أودير وتلقب بالألمانية روكلو وتشتهر بصناعاتها الكيميائية والمعدنية وتشير الأحداث الجارية في بريسلو إلى تقسيم تلك البقاع بين روسيا والنمسا ثانيةً عام 1792 كما ظلت ألمانيا تطمح في السيطرة على بولونيا حتى احتلتها خلال الحرب العالمية الأولى وهي المرحلة التي تتحدث عنها أجزاء الرواية الأولى لتعود إليها مع مجيء هتلر إلى الحكم.
تواكب «حصن بريسلو» التقلبات التي عرفتها بولونيا من خلال ما جرى في أشهر مدنها قبل أن يطرد أهلها السكان الألمان الذين تعاقبوا على احتلالها والإقامة فيها حيث عرفت مدينة سيليسيا فيها أكثر المعارك شراسة عام 1945 حين انسحبت قوات هتلر إلى داخلها هاربةً من نيران المدافع السوفييتية التي قاد معاركها المارشال إيفان كونييف الذي حرر براغ في العالم المذكور وبقي قائد حلف وارسو فيما بعد حتى العام 1960 ثم تشتعل الحرب على الجبهة الشرقية من بولونيا كما تتحدث الرواية وتسمع اصوات الكاتيوشا التي تحمل النصر للبولونيين.
وخلال تلك المعارك تجري تحقيقات داخل المباني المهدمة للمدينة ووسط الجثث المتناثرة وضابط التحقيق يدعى موخ وهو محقق سابق في الشرطة الجنائية للرايخ ويميز كراجيفسكي بين الرايخ الأول (الامبراطورية) والثاني أيام بسمارك والثالث أيام هتلر وهدف هذا الضابط المحقق هو معرفة من قتل امرأة من المجتمع الراقي في بريسكو وينطلق المحقق ليطارد ليس المجرم فقط إنما ما فعله المحتل النازي في تاريخ المدينة الساحرة الجمال وطبيعتها الخلابة وسكانها الذين صمدوا خلال الحرب العالمية الثانية كما فعلوا خلال الحرب العالمية الأولى.
ويسلط كراجيفسكي الأضواء في هذه الخماسية على أكثر المراحل اضطراباً في تاريخ بولونيا خاصةً وأوروبا بشكل عام ليجد القارئ أن بطل «حصار بريسكو» ليس المحقق موخ ولا الحسناء المقتولة إنما هو تاريخ بولونيا الصاخب بالمتغيرات والأحداث الدامية.
كما تعتبر لغة الرواية أهم من الحبكة لما تحتويه من اقتباس واشتقاقات تعيد الى الأذهان التواصل بين آداب المنطقة أيام الحرب والسلم معاً.