بل هي كانت أقرب ما تكون بالباردة, وإذا كان البعض يفسر مثل هذه الحالة التي لا تبعث على الرضا, في كون غالبية شرائح المجتمع اعتادت على شراء الألبسة لأطفالها خلال عيد الفطر, انطلاقا من الفترة الزمنية القصيرة التي تفصل العيد الأول عن الثاني. فإن هذا البعض قد يكون مخطئا ومصيبا في آن. فالأمر المعروف أن هناك بالفعل شريحة واسعة من المجتمع تقوم بمثل هذا السلوك الذي تحدثنا عنه, لكن بالمقابل هناك شريحة أخرى اعتادت على شراء الألبسة الجديدة لأطفالها في كل عيد, وهذه الشريحة -الثانية- التي نتحدث عنها قد تكتفي بشراء حذاء أو قميص أو أي حاجة تمثل سلعة جديدة, أي أن فاتورة الانفاق تكون أقل من مثيلاتها التي تسبق عيد الفطر السعيد, على اعتبار أن فصل الربيع تكون ملامحه قد بشرت في القدوم, وليس هناك من ضرورة لشراء المزيد من الألبسة الشتوية.
كل ما تحدثنا عنه يمثل وجها من الحقيقة وليس كل وجوهها, ذلك أن الأمر المحسوس والذي لفت انتباه الكثيرين, وهو أن الأمر الذي أدى إلى انحسار الحركة في الأسواق, يعود إلى أشباه الرواتب والأجور التي لم تعد تلبي الحاجات الفعلية للمستهلكين, فهذه الرواتب باتت أشبه ما تكون برواتب البطالة المعمول بها في كثير من بلدان العالم, بل إنها قد تكون أقل من ذلك بكثير, فخلال الأسبوع الأول أو الثاني على أبعد تقدير من كل شهر يتبخر الراتب ويذهب في كثير من الأحيان إلى مطارح لاعلاقة لها لا بالمأكل ولا بالملبس ولا بالمشرب, وإنما يتم سدادها أو الجزء الأكبر منها كفواتير الهاتف والماء والكهرباء وغيرها من المصاريف الأخرى.
غير أنه وعلى الرغم من حالة الركود والجمود التي شهدتها الأسواق بصورة لافتة, فإن ما أثار حفيظة الكثيرين هو أن بورصة الأسعار في الأسواق لم تشهد انخفاضا في اسعار السلع والمنتجات, وعدم التخفيض يعود في بعض جوانبه إلى سياسة غير صحيحة في البيع والشراء من جانب أصحاب المتاجر, وهي سياسة قديمة تشير في ملامحها إلى أن التاجر قد يرفع الاسعار بهدف تعويض الأرباح التي اعتاد عليها من خلال حفنة من الزبائن المحتملين. ويضاف إلى ذلك أن الصناعيين والتجار اعتادوا ومنذ سنوات بعيدة على رفع الأسعار عشية الأعياد وكأن هذه المناسبة تبرر انفلات وفوضى الأسواق , والمسؤولية في ارتفاع أسعار الألبسة لم تكن يوما مرهونة بطرف بعينه, وإنما تبدأ من صاحب المنشأة الصناعية الذي يقوم بتصنيع المنتج ولا تنتهي عند حدود تاجر الجملة والمفرق, كما أن المسؤولية ذاتها يمكن سحبها على الجهات الرقابية التي انسحبت في السنوات الأخيرة من الأسواق عملا بسياسة تحرير الأسعار, فضلا عن غرف الصناعة والتجارة التي لم تتمكن من خلال وعي تسويقي من شأنه تكريس مفهوم التجارة وليس البيع والشراء, وبديهي أن تكون المسؤولية متفاوتة بين طرف وآخر وذلك حسب حضور كل طرف في العملية التسويقية.
وفوضى الأسواق وفلتانها, يختلف من محافظة إلى أخرى ومن سوق إلى سوق, فالذين قصدوا أسواق الألبسة قبل أيام من العيد يمكن أن يلحظوا وبكثير من الوضوح, أن أصنافا لا حصر لها من الملابس تباع دون أن تحمل علامات تشير إلى مصدر تصنيعها أو الجهة المنتجة, والبعض من المنتجين لا يتردد في إلصاق ماركة تدل على أن السلعة مهربة من أسواق دول غير عربية, ومثل هذا السلوك إذا كان يرمي إلى التلاعب والتدليس بأسعار المنتج, فهو يدل في وجه آخر من المعادلة, على أن التاجر بات يدرك فقدان ثقة المستهلك ببعض السلع المنتجة محليا, والأمر الآخر في الفوضى, يتمثل في تفاوت الأسعار لذات السلعة ومن ذات الجودة والمواصفة, فبنطال أو قميص أو جاكيت ولادي يحدد سعره وفقا لمكانة المنطقة وشهرتها, ففي أسواق الحمراء أو الصالحية يمكن أن يشتري المستهلك منتجا بسعر يفوق قيمته الحقيقية, وما يدفع إلى قول مثل هذا الكلام, هو أن ذات السلعة ومن ذات المصدر يمكن أن تعرض في الأسواق الشعبية بأسعار تقل عن مثيلاتها في الأسواق التي تحدثنا عنها, وإذا قام البعض من المستهلكين بالكشف عن مثل هذه الحقائق فإن صاحب المتجر على درجة عالية من الجاهزية لتقديم المبررات والمسوغات التي تجعله يتملص من المسؤولية, فهو قد يتذرع بأن أسباب ارتفاع الأسعار في الأسواق الشهيرة إلى ارتفاع أجور العاملين والفواتير المرتفعة للكهرباء والماء وغيرها من النفقات غير المقنعة والتي ترمي أولا و أخيرا إلى تضليل المستهلك لا أكثر.
وإذا أردنا الحديث وبشيء من التفصيل حول فوضى الأسعار وفلتانها, فإنه يكفي التذكير أن هوامش الربح المعمول بها عربيا ودوليا لا تمت بصلة إلى ما هو قائم في بلدنا, ومثل هذا الأمر سوف ينعكس سلبا على المنشآت الصناعية التي ستواجه في المستقبل القريب استحقاقات لم تعهدها من قبل, فهوامش الربح المسموح بها في بلدنا هي نفسها المعمول بها في كثير من الأسواق العربية وغير العربية , لكن وجه المفارقة أن أحدا من الصناعيين والتجار لا يأخذ بها, فعلى سبيل المثال لا الحصر. هناك نسبة من الربح محددة بمقدار 20 بالمئة من نصيب المنتج,و 7 بالمئة لتاجر الجملة و 20 بالمئة لباعة المفرق, لكن هذه المعادلة غير قائمة في أسواقنا على الإطلاق, وأكثر ما يدل على ذلك, أن سلعة من السلع قد تحمل اللصاقة المبينة عليها مبلغا يصل على سبيل المثال إلى 1000 ليرة, وفي الوقت ذاته يمكن للمستهلك وبعد مساومة سريعة مع البائع أن يشتري هذه السلعة بمبلغ قد لا يزيد عن 500 ليرة, وأمام هذه الحقيقة التي يلامسها المستهلك يوميا في أسواقنا.. أين هي المصداقية في البيع والشراء.. وكيف يمكن التخلي وبسهولة عن نسبة تصل إلى 50 بالمئة من أساس السعر المدون على اللصاقة المرفقة بالمنتج?!
الحقيقة التي باتت معروفة وليست بحاجة إلى براهين, أن الصناعيين والمنتجين والتجار في بلدنا, كانوا ومازالوا يأخذون بسياسة الإثراء السريع دون النظر إلى العواقب المستقبلية لمثل هذه الآلية في البيع والشراء.
فبعض التقارير الرسمية التي تصدر عن جهات رقابية بين الحين والآخر, تقول صراحة:إن أكثر من 50 بالمئة من الألبسة مخالفة , و 15 بالمئة مخالف لجهة المواصفات والجودة, وربما مثل هذه الأسباب وحدها كافية لتبرير أسباب تراجع الصناعات النسيجية في بلدنا وانخفاض نسب الصادرات منها, ولأن هذا الأمر كان سببه المباشر قيام الحكومة في الأخذ بسياسة الحماية التي من شأنها فقدان مفهوم المنافسة وذلك على مدار عقود طويلة من الزمن, فإن بعض التوقعات تشير إلى أن مئات المنشآت الصناعية سوف تضطر إلى اغلاق أبوابها, بعد أن بدأت التصريحات الرسمية تشير إلى أن المضي باتجاه اقتصاد السوق سيكون الملاذ الوحيد في المستقبل القريب, وكان قد جاء مثل هذا الخيار على خلفية انفتاح الأسواق العربية فيما بينها بعد سريان مفعول اتفاق منطقة التجارة الحرة العربية الكبرى,وبدء الاستعداد لاستقبال الشراكة مع أوروبا.
وبمنأى عن كل ما ذكرنا, فإن الحقيقة الماثلة في أسواقنا عشية عيد الأضحى المبارك, أن جمود الأسواق لم ينحصر في الألبسة أو الأحذية وإنما أيضا في الاحجام حتى عن الشراء في أسواق الحلويات واللحوم والخضراوات والفواكه, وهذا الاحجام قد يكون بنسب متفاوته بين شريحة وأخرى. فالغالبية ومهما غابت عنها القدرات الشرائية والامكانات المادية, فهي مضطرة للتسوق ولو ضمن الحدود الدنيا من الحاجات الضرورية.
فبعض الحلويات أو ما يتيسر من اللحوم لابد أن تشهد حضورا في بيوتنا خلال العيد, سواء أكان ذلك من خلال الاضطرار في استدانة مبلغ من المال, أو حتى قيام ربة المنزل في بيع ما تبقى لها من ذهب قديم.., إنه العيد ولابد من الاحتفاء به مهما كانت الظروف قاسية وقاهرة.. وكل عام وأنتم بخير.