كيف يمكن للديمقراطية الشرق أوسطية أن تفعل فعلها وما هي ضمانة تحققها, وهل هي قادرة حقا على إقامة تحديث بنياني يغير أوضاع الإنسان والجماعة?, أم هي تحديث شكلاني يقوم على صيغة الانتداب الجديد أو نظام المحميات التي يلعب فيها نظام الحماية والانتداب السياسي لعبة الاستعمار الجديد?
لعل المفارقة المؤلمة هنا هي أن طارح السؤال يمتلك مسبقا الإجابة عليه, لكن مجرد طرحه هنا أوهناك قد يعكس رغبته اللامتناهية في رفضه على شكل السؤال المستهجن دائما, والسبب في ذلك هو أن قارىء هذا المشروع المجدد المطروح حاليا لن يضطر لبذل الجهود الكبيرة لمعرفة النوايا الحقيقية له,ولاسيما أن النقاط التي يطرحها هذا المشروع كثيرة متعددة وتتجاوز الجانب السياسي إلى الديني والثقافي والايديولوجي والاقتصادي..إلخ.
ويمكن لنا أن نشير هنا إلى أبرز ثلاث وثائق سياسية تعيد التأكيد على فكرة الشرق أوسطية بالتعارض مع العمل بدلالة مشروع الأمة العربية:
أولها: اتفاقية كامب ديفيد التي اتخذت عنوانا لها وتضمنت نصا معبرا وهو (إن شعوب المنطقة تتشوق إلى السلام حتى يمكن تحويل موارد المنطقة البشرية والطبيعية الشاسعة لمتابعة أهداف السلام وحتى تصبح هذه المنطقة نموذجا للتعايش بين الأمم.. إن التقدم في اتجاه هذا الهدف من الممكن أن يسرع بالتحرك نحو عصر جديد من التصالح في الشرق الأوسط).
ثانيا:تركيز شيمون بيريز في كتابه(الشرق الأوسط الجديد) على إيجاد شرق أوسط جديد من خلال التأسيس لسوق اقتصادية تشكل محور اختراق أمني للدول العربية.
ثالثا: معاهدة وادي عربة في 26/10/1994 والتي دعت إلى بناء أمن إقليمي وإيجاد منطقة خالية من التحالفات العدائية في الشرق الأوسط (والمقصود هنا تحالفات الأمن القومي العربي), كما دعت إلى تعاون اقتصادي إقليمي وتضمنت إلزام الطرفين إقامة مؤتمر الأمن والسلام في الشرق الأوسط على غرار مؤتمر الأمن والتعاون الأوروبي.
إن الشرق الأوسط هذا ما هو إلا برنامج عمل سياسي واقتصادي وثقافي متكامل يتكون من عناصر مبرمجة ذات وجود مادي وهو برنامج لايرتبط فقط بمبادرة جورج بوش بمعنى أنه برنامج مرشح للاستمرار والتقدم الحثيث نحو أهدافه البعيدة بغض النظر عن القيادة الحالية له, وهو أيضا غير مرشح للفشل إلا إذا برز برنامج عربي مقابل يكون هدفه الأساسي هو نهضة العرب المعاصرة وليس مجرد الدفاع عما هو قائم عربيا الآن.مضمونه الثقافي يبرز بشكل واضح من خلال التطلعات الصهيونية لتغيير نظرة العرب إلى إسرائيل من دون أن تبدل نظرتها العدوانية للعرب وبتعبير آخر على العرب أن يتكيفوا مع ما يدعى (مفهوم إسرائيل للسلام) من دون أن تغير الحركة الصهيونية معتقداتها وخياراتها الاستراتيجية والتطبيع الثقافي هو أحد أبرز الخيارات الصهيونية المطروحة على العرب تحت شعار السلام ومن شأن هذا الخيار أن يركز على إعادة صوغ تاريخ قضية فلسطين والصراع العربي/ الصهيوني والحديث عن هوية شرق أوسطية وليس عن هوية عربية في ظل الانتهاكات الدائمة والمستمرة لحقوق الإنسان والمواطن الفلسطيني.
أما بعده الأمني فيظهر واضحا من خلال التأكيد الأميركي على دور إسرائيل المحوري والذي يتم التعبير عنه بتمكين الكيان الصهيوني من امتلاك التقانة العسكرية الحديثة وتفوقها النوعي من أجل أن يكون لها دور مطلوب في المستقبل, كما يؤكد معهد واشنطن للدراسات الاستراتيجية مع ما يدعى ضبط الأمن الإقليمي ومراقبة التسلح من خلال الوجود العسكري الأميركي في الشرق الأوسط كما يلحظ هذا النظام الإقليمي- الأمني دورا تركيا أيضا.
واليوم تعاد الصياغة لتأخذ شكلا آخر, لقد انطلقت الإدارة الأميركية في طرحها للمشروع الجديد على الدول الصناعية الثماني من تقريري التنمية العربية المقدم للأمم المتحدة في عامي 2002/2003 بحيث قامت هذه الإدارة بتوظيف ما جاء فيهما كمنطلق إيديولوجي لانتزاع موافقة أوروبية على مشروعها في اجتماع الدول الصناعية الثمانية الذي انعقد في حزيران الماضي من العام الماضي وذلك لتصبح إسرائيل العامل المحوري في هذا المشروع بحيث تغدو المركز الرأسمالي الفرعي المعولم في المنطقة.
والإدارة الأميركية تنطلق في مشروعها الجديد هذا والتي تظهره كمشروع إصلاحي تدعو إلى مساهمة أوروبانية من ثلاث أسس هي:
1- تشجيع الديمقراطية والحكم الصالح
2- بناء مجتمع معرفي
3- توسيع الفرص الاقتصادية وتحرير المرأة
يبدو للوهلة الأولى أن هذه الأسس المطلوب إنجازها عربيا لإعادة ترتيب الأوضاع في منطقة الشرق الأوسط الكبير دعوات خيرة تركز على حقوق الإنسان والديمقراطية والتنمية والمعرفة, لكنها في الجوهر ليست إلا مقدمة للسيطرة الأميركية- الصهيونية على المنطقة مع استبعاد القوى الأوروبية وروسيا والصين واليابان.
إن القارىء لهذا المشروع سيتبين له من خلال الإطلاع على الملامح العريضة التي تعلنها أميركا في مشروعها جملة من النقاط المهمة أبرزها:
إن هذا المشروع يهدف في الواقع إلى وضع الدول العربية تحت وصاية الولايات المتحدة, من خلال التخطيط الدقيق لمعالم التغيير الذي تريد تحقيقه في بنية المجتمعات العربية (السياسة والاقتصاد والاجتماع والثقافة) ولاتقتصر المسألة على التغيير بل تتعداها إلى الإشراف الدقيق على التنفيذ في كل الميادين التي أشرنا إليها, من خلال إدارتها مباشرة وعن طريق التمويل المباشر من الدول الأوروبية.
إن بنية التقرير الأساسية تقوم على أساس الأحكام والتقويمات التي وردت في تقريري التنمية الإنسانية العربية لعامي 2002/,2003 ومن المعروف أن التقرير الأول الذي أحدث دويا إعلاميا صاخبا وأصبح مرجعا لإدارة الرئيس بوش في مشروع الشراكة الأميركية العربية و الذي سبق لوزير خارجيته السابق كولن باول أن أعلنه وخصص له 90 مليون دولار كان موضوعه خلق الفرص للأجيال القادمة, أما التقرير الثاني فقد كان موضوعه إقامة مجتمع المعرفة.
إن اعتماد المشروع الأميركي بشكل أساسي على هذين التقريرين يمثل حيلة بارعة في الواقع وذلك أن الخبراء الذين صاغوا المشروع أرادوا أن يوجهوا رسالة محددة للنخب والجماهير العربية مفادها أن أميركا لم تفعل سوى التصديق على كل الانتقادات العنيفة التي وجهها التقريران لمسيرة التنمية العربية, بل إنها تتبنى صوغ المشكلات السياسية والاقتصادية والثقافية كما حددها التقريران, وهكذا أرجع المشروع الظواهر السياسية والثقافية والاجتماعية العربية والتي أدانها كل الباحثين و المفكرين العرب وأبرزها الفكر المتطرف والإرهاب إلى محض أسباب داخلية تتعلق بالافتقار إلى الديمقراطية ونقص معدلات العدالة الاجتماعية وضيق آفاق فرص الحياة أمام جيل الشباب.
هذا الوضع غير العلمي للمشكلة يتجاهل تماما تأثير العوامل الخارجية في إشعال وقود الفكر المتطرف في الوطن العربي وهو الذي أدى إلى تصاعد موجات الإرهاب ضد النظم العربية ذاتها قبل أن ينقل نشاطاته التخريبية المدمرة إلى دول أوروبية, وماهو أخطر من كل هذا هو التجاهل المتعمد من قبل واضعي هذا المشروع للتهافت المنهجي والأخطاء النظرية الفادحة والمبالغات النقدية التي اتسم بها هذان التقريران حتى لأبسط القواعد العلمية في مجال الدراسات المقارنة, ناهيك عن اعتمادهما على بيانات غير موضوعية ومضللة لمؤسسة فريدوم هاوس (بيت الحرية) في مجال تقويم وضح الحريات السياسية في الوطن العربي.
هذا من ناحية الأساس الذي اعتمد عليه الرئيس الأميركي عند طرحه لهذا المشروع, أما فيما يتعلق بالمشروع نفسه فإن القارىء له سيجد أيضا جملة من الملاحظات يمكن لنا التنويه على بعضها:
يجري توسيع الشرق الأوسط جيوسياسيا ليضم المناطق التي تسيطر عليها الولايات المتحدة عسكريا وسياسيا في الباكستان وأفغانستان, ويمتد المشروع غربا ليشمل شمال أفريقيا حتى الأطلسي وهذا معناه إما أن يكون إضعافا للشراكة الأوروبية المتوسطية وخصوصا مع دول المغرب العربي, أو هو مقدمة لمساومة أوروبية- أميركية ستحصل على شمال أفريقيا, كما كانت المساومات سابقا زمن الاستعمار الأوروبي وتقسيم مناطق النفوذ بين الدول الاستعمارية.
تحتل إسرائيل موقع القاعدة الاستراتيجية, فالاستعدادات الأطلسية جارية لاعتماد إسرائيل قاعدة مساندة لقوات حلف الأطلسي في الشرق الأوسط استكمالا لترتيبات التحالف الاستراتيجي الأميركي- الصهيوني منذ العام ,1982 لذلك ليس مستغربا أن تركز الإدارة الأميركية على الأمن الإسرائيلي قبل أي اعتبار آخر بما في ذلك حق الشعب الفلسطيني في تقرير مصيره, وتضرب بكل المواثيق الدولية حول حق الشعوب وحقوق الإنسان عرض الحائط.
من يتصور أن الدول الثماني ستقدم لنا الإصلاح والديمقراطية هكذا مجانا واهم تماما, فبعد أكثر من عام على احتلال العراق ماهي هذه الديمقراطية الأميركية القائمة أساسا على انتهاك حقوق الإنسان?
وهل المحاصة الطائفية والعرقية والاثنية في العراق تعبيرا عنها?,هل هذه هي ديمقراطية جورج بوش وجون لوك وجان جاك روسو وغيرهم من الذين أسسوا لنظرية العقد الاجتماعي?
أم أنها الديمقراطية الملغومة التي ستنفجر ضد كل الطوائف والأطياف السياسية في العراق كما ستفعل لاحقا في كل أرجاء الوطن العربي إذا استطاعت أميركا تنفيذ ما تريد.