وبعيداً عن تقييمات المرحلة الراهنة وآفاقها والكيفية التي يتم فيها التعامل مع القضايا الجوهرية المتعلقة بمصير الشعب الفلسطيني التي تكتنفها الضبابية في تحديد المفاهيم والمبادىء والقيم والحقوق المعهودة, فإن المعضلة التي يواجهها الشعب الفلسطيني اليوم, تكمن في طبيعة ما يطرح من آراء ومشاريع متعلقة بقضيته التي قدم لأجلها عشرات الآلاف من الضحايا خلال تاريخه الذي اتخذ الشكل الأكثر مأساوية منذ اغتصاب وطنه عام 1948 على يد العصابات الصهيونية بدعم وتأييد من قبل القوى الاستعمارية الغربية الكبرى التي ما زالت تحمي الكيان الاسرائيلي رغم كل الجرائم التي ارتكبها ويرتكبها بحق شعب فلسطين.
وهذا التاريخ المأساوي للشعب الفلسطيني يدفعه الى الشك كثيراً من أن كيانه لم يتوقف يوماً عن استخدام القوة والبطش والارهاب ضد الشعب الفلسطيني وبعد أن اغتصب أرضه وطرده منها بالقوة وشرده في مختلف أصقاع الأرض يمكن أن يتحول الى حمل وديع يريد السلام والحياة المشتركة مع الفلسطينيين والعرب ومع شعوب المنطقة, والأنكى من ذلك أن البعض وتحت شعارات الواقعية السياسية وعدم تناسب القوى اقليمياً ودولياً, وعدم فهم طبيعة (المجتمع الاسرائيلي) يتوصلون الى استنتاج غريب ومدهش بأن هذا (المجتمع) لا يتحمل العنف الذي تصفه اسرائيل وأميركا وبعض العرب بالأعمال (الارهابية) الفلسطينية, ملقين على الفلسطينيين مسؤولية العنف الدائر في أرض وطنهم المحتل, وكأن مقاومة المحتلين لأرض وطنهم المحتل باتت برأي أولئك الذين من المفترض أن يكونوا الى جانب المقاومة ارهاباً?! ويقولون إن الانتفاضة المسلحة كانت خطأ, لأنها كلفت الفلسطينيين خسارة ما سمي باليسار والوسط في اسرائيل وترجع الدعم والتعاطف الدوليين مع الشعب الفلسطيني على عكس ما كان عليه الوضع في الانتفاضة الأولى (السلمية) عندما كان العالم ينظر بإعجاب الى الطفل الفلسطيني الأعزل وهو يقاوم الدبابة الاسرائيلية, وإذا ما توقف الفلسطينيون عن استخدام إطلاق النار, فإن اسرائيل ستجد نفسها تحت ضغط داخلي ودولي, ولكن هؤلاء لا يقولون الى أي مدى سيؤثر هذا الضغط على اسرائيل وهل سيرغمها على الانسحاب من الأراضي الفلسطينية والعربية التي احتلتها عقب عدوان حزيران عام 1967 بوصفه الهدف النهائي للمقاومة الفلسطينية والممانعة العربية?!
إن استعادة السلام وايقاف إراقة الدماء والعنف, هو مطلب مشروع لأي شعب من شعوب العالم, والشعب الفلسطيني الذي يسقط من أبنائه يومياً العديد من الشهداء لا يلجأ الى مقاومة المحتل الاسرائيلي حباً بالعنف, بل لرد العنف وإيقاف مسلسل القتل الذي تمارسه قوات الاحتلال الاسرائيلي, فاسرائيل وقواتها العسكرية هي التي لم تتوقف يوماً عن استخدام العنف والقتل وتدمير المنازل وجرف المزارع وحرق الأشجار و وطرد الفلسطينيين من بيوتهم إن كان في زمن الانتفاضة الأولى التي يحلو للبعض أن يصفونها (بالسلمية) أو في زمن الانتفاضة الثانية التي يصفونها بالمسلحة, ففي الزمنين لم تغير اسرائيل من أساليبها الوحشية النازية ضد الشعب الفلسطيني وبالتالي فإن مسؤولية العنف تقع على عاتق الجهة التي تحتل الأرض وتمارس الارهاب والبطش ضد سكان هذه الأرض الأصليين,ولو استجابت اسرائيل لقرارات الأمم المتحدة ومجلس الأمن الدولي بالانسحاب من الأراضي التي احتلتها بالقسوة في عدوان حزيران لما كانت هناك اليوم مقاومة فلسطينية, إذاً المقاومة وبغض النظر عن الأساليب التي تستخدمها مشروعة بالمطلق وفق جميع المبادىء والقوانين الدولية ما دام الاحتلال جاثماً على صدور أبناء الأرض المحتلة, وبالتالي فالمعادلة جداً بسيطة ويتوقف حلها على الجانب الاسرائيلي تحديداً وعندما تستجيب لمستلزمات السلام العادل والشامل في المنطقة وفي مقدمتها الانسحاب الكامل من الأراضي المحتلة, ويكف عن سياسة العدوان والغطرسة, ويلتزم بقرارات مجلس الأمن الدولي ويطبقها كاملة دون شرط أو قيد, ودون ذلك سيكون الحديث عن السلام مجرد وهم هدفه الخداع والمراوغة, لأن استمرار الاحتلال سيقود الى المقاومة بالضرورة لأن الشعوب لا تستكين للجلادين , فاسرائيل تدعي وكأنها هي الطرف المظلوم في معادلة الصراع العربي الصهيوني, بينما يكفي أن تنسحب من الأرض المحتلة ليعم السلام في المنطقة برمتها, هذا هو الأساس لأي استقرار وأمن وسلام في الشرق الأوسط, ومن مستلزمات الاستقرار إقامة الدولة الفلسطينية المستقلة وعاصمتها القدس وحق عودة الفلسطينيين المشردين الى ديارهم, وكما بينت استطلاعات الرأي الأوروبي الغربي مؤخراً إن 60% من الشعوب الأوروبية متعاطفة مع الشعب الفلسطيني وتعتبر سياسة اسرائيل هي التي تشكل خطراً على السلام في منطقة الشرق الأوسط والعالم, وليس الفلسطينيين, اضافة الى أن التعويل على يسار ويمين في أطر الصهيونية الحاكمة في اسرائيل ليس سوى سراب ووهم لأن جميع الأحزاب الصهيونية بغض النظر عن الصفات التي تطلقها على نفسها, تتفق في الجوهر على معاداة الحقوق الطبيعية والمشروعة للشعب الفلسطيني, وإذا ما أرادت الدول الكبرى السلام في المنطقة, فعليها أن تضغط على اسرائيل وترغمها على الانسحاب من الأراضي المحتلة والاستجابة الكاملة لاستحقاقات السلام بما في ذلك الحقوق الوطنية المشروعة للشعب العربي الفلسطيني التواق للحرية والاستقرار والأمن والعيش الكريم في أرض وطنه المغتصبة.