بمتعة تحايل تباغتنا أنها سكنت اللاشعور فينا , قبل الشعور ذاته , لتقيم في وجداننا , عقولنا , و مع نبض أفئدتنا .
فهل للمدينة سحر قوة تصنع به قدر إنسانها , و هل لها سطوة قادرة على تكوين شخصية ذاك الإنسان ?..
أورهان باموق الروائي التركي العالمي , الحائز على جائزة نوبل عام 2006م,يدرك, معلناً في مذكراته التي صدرت مؤخراً معنونة ب( اسطنبول ) , أن ارتباطه بمدينته تلك يعني أن قدرها يكوِّن شخصية الإنسان ( اقتنعت أحياناً أن اسطنبول التي ولدت و أمضيت حياتي فيها هي قدري الذي لا يمكن أن يناقش ) .
ولد باموق في 7 حزيران عام 1952 م , بعد منتصف الليل بقليل في مشفى صغير في حي ( موضة ) باسطنبول , و نشأ في ( بناء باموق ) الذي بني في طرف أرض واسعة كانت حديقة كبيرة لمنزل باشا في ( نيشان طاش ) . في ذلك البناء عاش مع أبيه و أمه و أخيه وجدته لأبيه و أعمامه و زوجاتهم . هؤلاء كانوا عائلته التي شغلت مختلف طوابق البناء , كانت عائلة غنية جمعت أموالها عن طريق جد أورهان الذي درس الهندسة المدنية و كسب الكثير من المال من مدِّ السكك الحديدية التي صرفت عليها الجمهورة التركية أموالاً طائلة في الثلاثينات . و أسس مصنعاً كبيراً ينتج أشياء كثيرة . توفي الجد تاركاً ثروة لم يتمكن والد أورهان و عمه من الحفاظ عليها , بسبب دخولهما مختلف الأعمال الإنشائية الخاسرة , يقول أورهان ( إزاء ذلك كنت منتبهاً منذ وعيي على الحياة كم أن الأقرباء الذين يتناولون طعام العيد معاً و هم يتبادلون الضحك , يقسو أحدهم على الآخر في مشاجرات المال و الملكية المتأججة أحياناً .. كنت أتحسس التفسخ البطيء و تفكك العائلة ذات الجذور العثمانية الاسطنبولية الكبيرة التي يعيش أفرادها كلهم في دار خشبية , من إفلاسات أبي و عمي المتكررة ) .
لا تبدو مذكرات باموق ذكريات شخصية بمقدار ما هي ذكريات مدينته اسطنبول. ربما كان مردُّ ذلك عائداً لولادته و نشأته في الفترة اللاحقة للتحول للجمهورية التركية , الفترة التي شهدت إرهاصات تبلور القومية التركية , و بناء الدولة الحديثة, ما يعلل تسميته لمذكراته ب ( اسطنبول ) .
إلى الآن تكتسب اسطنبول أهم ميزاتها من كونها مدينة تجمع ما بين الشرق و الغرب . و ما يسحر زوارها غناها المستمد من التقاء عالمين مختلفين حدَّ التناقض , فهناك الشرق بكل ما فيه من فقر و ملامح و بقايا امبراطورية عثمانية إسلامية , و في الجانب المقابل تماماً تبدو اسطنبول المتغربنة , ذات الإيقاع الحديث العلماني , بسماتها المتأوربة . و مع ذلك يبدو الكثير من التفاصيل التي يرويها أورهان عن ( اسطنبوله ) كما لو أنها رثاء لإرث حضارة فقدته تلك المدنية , فاسطنبول الطفولة تلك تثير فيه إحساس الحزن , و من أجل تحسس منابع الشعور بالحزن الكثيف يرى أنه ( يجب النظر إلى التاريخ , إلى نتائج انهيار الدولة العثمانية من جهة , و إلى انعكاس هذا التاريخ على مناظر الناس و المدينة ( الجميلة ) من جهة أخرى . الحزن في اسطنبول سائد في الموسيقا المحلية , و كلمة أساسية للشعر من جهة ,ووجه نظر للحياة , و أن يومىء لحالة نفسية , و مادة تجعل المدينة مدينة من جهة أخرى , و لأن الحزن يحمل هذه الخصوصيات كلها فهو حالة نفسية تفضلها المدينة بتباهٍ أو تتظاهر بأنها تفضلها ) و لهذا يرى باموق الحزن شعوراً إيجابياً بمقدار ما هو سلبي , و غير مقتصر على وصفه شعوراً سوداوياً معبراً عن حالة نفسية فردية , بل يقترب بذلك الشرح الذي يعيه , هو نفسه , من المعنى الذي استخدمه ( كلود ليفي شتراوس ) أي أنه يغدو نابعاً من ثقافة و محيط .
الثلج ممزوجاً مع طين الشتاء
اقتران اللونين الأبيض و الأسود بذاكرة باموق الطفولية الحزينة القاتمة هو من أهم أسباب الشعور بالحزن ذاك . إذ عاش في اسطنبول بوصفها مكاناً بلونين , لا ثالث لهما , رمادية , رصاصية شبه مظلمة , كصور الأبيض و الأسود - على حدِّ تعبيره - فروح المدينة السوداء و البيضاء ترسم تفاصيل ذاكرة أورهان , ذاكرة متشحة بالأسود والأبيض , تنبثق منها صور المنازل الخشبية المائلة للسواد بتأثير الرطوبة و القذارة , يقابلها الثلج الممزوج مع طين الشتاء , و هناك بلاط الشوارع الحجري , و عصابات الكلاب الغبراء الر مادية التي لا لون لها , مصابيح الشوارع الشاحبة , و دخان السفن الذاهبة و الآتية , الشاحنات القديمة المحملة بالفحم , تلاميذ المدارس بصدرياتهم السوداء و ياقاتهم البيض , كل ذلك يخلّف مع إحساس الخيبة و الهزيمة و الضياع , ذاكرة بالأبيض و الأسود .
الرسم متعتي
لم تمنع تلك الذاكرة الحزينة الرمادية , أورهان من الاستمتاع بخربشات الطفولة , التي تطورت لتصبح موهبة رسم حقيقية , يقول ( مع استمراري بالرسم و عرض ما أرسمه على الآخرين , و جدت أنهم يمتدحونني .. ) على الرغم من أن الرسم - عالم أورهان الآخر - حقق له المتعة و السعادة و غنى الحياة , إلا أنه سرعان ما سيبدو هذا العالم ( الطفولي ) في نظره بعد الثانوية و دخول الجامعة لدراسة العمارة , عالماً ساذجاً , لتتلاشى متعة الرسم لصالح بروز متعة أخرى بدأت تتكشف ملامحها لديه , و ليقرر نهايةً بعد شجاراته الطويلة مع أمه , تر كه لدراسة العمارة .. هكذا يهجر العمارة و معها الرسم , ليكون كاتباً , مغيراً منحى علاقته بالقلم و الأوراق من كونها رسماً لتصبح كتابةً ..
الكتاب : اسطنبول الكاتب : أورهان باموق - ترجمة : عبد القادر عبد اللي - الناشر : دار المدى 2007م