بعد أن أعلنت إدارة الرئيس الأميركي دونالد ترامب عن انسحابها من تلك المعاهدة بشكل رسمي في مطلع الشهر الحالي، ذلك النوع من الصواريخ الذي حظرته معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الموقعة عام 1987.
ومع انتهاء العمل بتلك المعاهدة، بات التوازن النووي بالعالم في حالة من عدم الاستقرار، وفي المدى القريب سيصبح بادياً بشكل جلي أن الولايات المتحدة تريد نشر صواريخ نووية قصيرة المدى. علماً أنه من غير المرجح أن تحول أي اتفاقية جديدة دون تطورات على أرض الواقع.
أعلن البنتاغون بأن اختبار إطلاق (صاروخ كروز الأرضي التقليدي الجديد) جرى في جزيرة سان نيكولاس في ولاية كاليفورنيا، وفي هذا السياق، صدر تصريح عن وزارة الدفاع الأميركية يقول إنه: (تم إطلاق الصاروخ التجريبي من قاعدته الأرضية المتحركة وأصاب الهدف بدقة بعد قطع مسافة تبلغ 500 كم (310 ميلاً) من الطيران، كما أن المعلومات التي جرى جمعها والدروس المستقاة من تلك التجربة تشير إلى التطورات المستقبلية للقدرات المتوسطة المدى، ويبدو أن الصاروخ موضوع التجربة يماثل صاروخ توماهوك كروز، الذي تنشره القوات الأميركية أيضاً في البحر لتطلقه في الجو.
في وقت سابق، نشر الجيش الأميركي صواريخ توماهوك ذات القاعدة الأرضية من عام 1983 إلى عام 1991، ويمتاز هذا النوع من الصواريخ بقدرته على حمل رؤوس حربية وقطع مسافة يصل مداها إلى 1600، وقد ألزمت اتفاقية معاهدة الصواريخ النووية متوسطة المدى الروس والأميركيين على سحب 400 إلى 1500 صاروخ نووي أرضي يتراوح مداه بين 310 إلى 3400 ميل.
لكن يبدو أن الرئيس الأميركي لخرق تلك الاتفاقية نوه بعودة الصواريخ المتوسطة المدى ذات الضربة السريعة، إذ ظهر المؤشر الأول لخرق اتفاقية عام 1987، عندما ادعت إدارة الرئيس الأميركي باراك أوباما في عام 2011 بأن روسيا تطور صواريخ كروز جديدة مجهزة نووياً خلافاً للشروط الواردة بالاتفاقية.
لفتت وزارة الخارجية الأميركية عام 2013 نظر الكرملين حول هذا الأمر، ومن ثم في ذات العام، أعلن البيت الأبيض رسمياً أن روسيا قد عمدت إلى انتهاك الاتفاقية، لكن لا ريب بأن الأميركيين كانوا هم المسؤولون عما يحصل من تطورات. كما نجد أنه في 2015 شرع البنتاغون بتركيب دفاعات صاروخية في رومانيا، إذ صممت الولايات المتحدة مضادات الصواريخ غير النووية من نوع إم إس 3 بهدف إسقاط الصواريخ البالستية التي تطلقها إيران.
بيد أن الروس رأوا بأن صواريخ إم إس 3 تمثل تهديداً لهم وأشاروا إليها باعتبارها دليلاً على تطوير الأميركيين للأسلحة متوسطة المدى، وفي عام 2017 طور الجيش الروسي صواريخ قصيرة المدى من نوع أس أس سي 8 في موقع على الحدود الغربية لروسيا، وفي الوقت عينه، أعدت إدارة أوباما الخطط لمجموعة جديدة من الأسلحة النووية ومنها الأسلحة الذرية (التكتيكية) الأصغر التي قد يكون البيت الأبيض أكثر استعداداً لاستخدامها من الأسلحة الاستراتيجية الأكبر حجماً وأكثر قوة.
أشارت إدارة ترامب إلى أن الصين أيضاً في تبريرها لإلغاء معاهدة الصواريخ النووية قصيرة المدى علماً بأن بكين لم تكن طرفاً في اتفاقية عام 1987. وصدرت (مراجعة الموقف النووي) لترامب في مطلع عام 2018 مبينة أن الولايات المتحدة نفذت خططاً للتسلح الأمر الذي دفع بروسيا إلى التفكير بالانتشار النووي الروسي الجديد، ويضاف إلى ذلك أن وقف العمل بالمعاهدة حرر البلدين ودفع بهما لتطوير تلك الأسلحة، الأمر الذي غاب عن أوروبا على مدى عدة عقود.
وفي هذا السياق، علق العالم النووي في جامعة برنستون بروس بلير قائلاً: (تزيد السياسات الجديدة من فرص الدخول في حرب نووية).
وادعى ترامب في خطابه عن حالة الاتحاد عام 2019 بأن الولايات المتحدة قد ناقشت معاهدة جديدة تنضم إليها الصين لتحل محل معاهدة الصواريخ المتوسطة المدى، ذلك الأمر الذي يتعذر حدوثه وفقاً لوجهة نظر الخبير النووي كريغوري كولاكي في اتحاد العلماء المعنيين الذي مقره ماسوشيستس، إذ من المحتمل أن يكون لزاماً على الولايات المتحدة الموافقة على وضع قيود أوسع على تسليحها في حال رغبت بإحضار الصين إلى الطاولة، لكن ما ترغبه إدارة ترامب على نحو مستمر وضع قيود أقل على تسليحها.
وقال ترامب في خطابه الذي ألقاه: (قبل عقود خلت، دخلت الولايات المتحدة في اتفاقية مع روسيا واتفقنا بموجبها على وضع حدود لقدراتنا الصاروخية وتقليصها، وفي الوقت الذي تابعنا ما التزامنا به حتى آخر حرف، كانت روسيا تنتهك تلك الشروط. وهذا ما دفعني لأعلن بأن الولايات المتحدة تنسحب رسمياً من الاتفاقية، وربما يصار إلى التفاوض على اتفاقية مختلفة تنضم إليها الصين ودول أخرى أو ربما لا نستطيع التوصل إلى الاتفاق).
إن المعضلة بالنسبة للصين لا تكمن بالأسلحة النووية بل بالأسلحة غير النووية، وقد كتب كولاكي: (لدى الصين عدد محدود من الصواريخ قصيرة المدى التي يمكن تجهيزها بالأسلحة النووية ويمكن أن تشملها القيود التي تفرضها معاهدة الصواريخ متوسطة المدى، لكن المعضلة الحقيقية تكمن في وجود عدد كبير من الصواريخ التقليدية والتي يبدو بأنها باتت مصدر قلق لمؤيدي انسحاب الولايات المتحدة من المعاهدة).
وأضاف كولاكي بالقول: (إن التفاوض مع الصين بشأن معاهدة الصواريخ متوسطة المدى يستدعي منها تفكيك صواريخها، الأمر الذي قد يقود إلى طرح عدد من القضايا الجديدة التي يصعب إيجاد حل لها، ولكن، مع ذلك، يمكن أن تؤدي المحادثات المثمرة إلى بناء الثقة والحفاظ على السلام في شرق أسيا) واستطرد القول: (من المؤسف أن لا يكون لدى دعاة انسحاب الولايات المتحدة من الاتفاقية النية للحوار مع الصين بشأن انضمامها)