وكأن نتائج الحرب العالمية الثانية لم تحدّد العلاقات الدولية بمحدّدات حق تقرير المصير، ولا احترام سيادة الأمم على جغرافيتها، ومجالها الحيوي داخل حدودها الوطنية.
وبناء عليه واجه المجتمع الدولي أبشع صور الاستعمار حين تفرض أميركا على من تستطيع أن تقرّر له سياساته الداخلية والخارجية أن يندرج في تحالف ضد الذين لم يذعنوا للمصالح الصهيونية في إقامة الدولة اليهودية على كامل رقعة فلسطين الجغرافية، وتفتيت الجغرافية العربية المحيطة بفلسطين ضماناً لإدامة المشروع الصهيوني، وحرصاً على توسّعه، وامتداده، لا توقّفه وارتداده.
وقد رأينا الزعم بالثورات كيف كانت الخطوة الأميركية الذرائعية للتدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى والتعدي على حقوقها في تقرير المصير بالإرادة الوطنية الخالصة ففي أوروبا اقتلعوا الثورات البرتقالية، أو الثورات الملونة.
وفي الشرق العربي جاؤونا بما سمّي الربيع والثورة الشعبية، وكان فارق الاحتمال بين المنطقتين واضحاً بأن الثورات في أوروبا اعتمادها على القوى الداخلية التي استطاعت السياسات الأمروصهيونية أن تشغّلها لمصلحتها؛ أما الربيع العربي المزعوم فاعتمدوا فيه على الإرهاب الدولي ولو أكسبوه اللباس المتأسلم حتى تكون المشكلة في دين العرب الذي لم يسخّروه لتحرير أرض العرب من الاستعمار والصهيونية بمقدار ما جعلوا الإخوانية والوهابية تختطفه ليكون في مصلحة الصهيونية ومشروعها الاحتلالي الاستيطاني العنصري على أرض العرب.
وقد خَلَقَ الحلف الأمروصهيوني ظاهرة يحرص على تعميمها وهي: الرُّهاب الإسلامي (الإسلام فوبيا) ووضعوا الإسلام في مواجهة النمو الحضاري العالمي، والتقدم الإنساني، والسلم والأمن الدوليين. ولكي تتحقق الأحلام الأمروصهيونية لا بد من كسر إرادة السيادة والاستقلال عند العرب ولا سيما أن النظام الرسمي العربي قد تمّ تعريضه لهزّات من حرب الخليج الأولى، والثانية، إلى اعتداءات إسرائيلية متتالية، إلى الربيع والثورات من أجل الديمقراطية الكاذبة. وتأكد للعامل الاستعماري الخارجي بأن القرار القومي العربي المستقل لم يعد له في المنظومة العربية السند الكافي الذي يجعل منه في إطار الجامعة ومؤتمر القمّة العربية المحرّك الأقوى للسياسات العربية بل على العكس صارت الغلبة داخل المؤسستين العربيتين هي للأعراب وليس لقوى العروبة السيادية.
وحين تم تصدير الثورات في مطلع هذا العقد من القرن الحادي والعشرين وقفنا على حقائق مذهلة عكست لنا مقدار انخراط الأعراب في تدمير بنى المقاومة العربية للحلف الأمروصهيوني، وفي المساهمة مع المشروع الصهيوني الذي تتعهده أميركا بالتنفيذ ولو دمّرت فيه الحالة الجيوتاريخية العربية لدول الطوق خصوصاً، وسورية أولاً. والقراءات المختلفة التي ظهرت في الحرب الإرهابية على سورية لم تكن قادرة على أن تغطّي الوجه الحقيقي لما خُطّط له على سورية وتمّ الشروع بتنفيذه.
في البداية كان انخراط المحيط الأعرابي في الحرب على سورية، ومعه أردوغان لا يحمل لبلدنا - كما لمسته جماهير شعبنا - أي ملمح من ملامح الثورة الديمقراطية، وحقوق الإنسان حين يكون قرار هذه الثورة من سبع جهات أجنبية، وليس له أيّ جهة داخلية.
وبالتالي لم تعد مزاعم الثورة قضيةً وطنية، وفي حساب من المستفيد منها نجد أن إسرائيل هي المستفيد الأكبر ولذلك تراجع كل وطني عن الانخراط فيها طالما أنها في خدمة الصهيونية، وليست من أجله. ويضاف إليه أن المرجعيات الاستعمارية أخذت تتعامل مع الدولة الشرعية على أنها فقدت مشروعية وجودها الوطني على الرغم من حرص جماهير الشعب عليها، والتفافهم حولها، وهنا شدّ الشعب من أزر دولته وساندها وتأكد له بأن الحرب الإرهابية على دولته هي حرب عليه وجوداً ومصيراً ومستقبلاً. وبالوعي الشعبي هذا سقطت أضاليل الدجالين الذين ادعوا أنهم يقيمون دولة الإسلام ويحققون سلطة الله على الأرض.
ومنذ انتهاء المشروع الأمروصهيوني من الوعي الوطني سقطت القراءة التآمرية الأولى على بلدنا الصامد. والقراءة الثانية التي سقطت معها هي رهان الانقسام على جيشنا البطل. ثم القراءة الثالثة التي سقطت هي أن سورية لن تتمكّن من إيجاد حلف مقاومة داعم لها في معركتها المقدسة ضد الإرهاب الدولي ومشغّليه.
والقراءة الرابعة التي سقطت هي قراءة الميدان إذ اعتقد الكثيرون من أصحاب الوعي المحدود، أو أصحاب الرئة التي تتنفس من الخارج بأن ميزان القوة سيرجح لمصلحة الإرهابيين طالما قد زوّدتهم أميركا وأدواتها بالعُدّة والعتاد والعدد بما يجعلهم يغطون الجغرافيا السورية ويشنون على الجيش العديد من الجبهات بآن معاً ما يربك تصدي الجيش لهم، ويمد سيطرتهم على أكبر مساحة من أرض الجمهورية.
وقد تحقق لهم هذا المقصد زمنا قصيرا، لكن المذهل لهم كان الأسلوب القتالي المتبدل للجيش وحلفائه، والقرار الاستراتيجي على الأرض في خوض الجبهات دوماً خلاف توقّع العدو ورصده الاستخباري، أو رصد الحلف الأمروصهيوني المشغّل لهم فمن القصير، إلى حمص، إلى حلب، إلى الغوطة، إلى الجنوب، إلى البادية والآن شمال حماة، وخان شيخون حيث لم تنفع بأيدي الإرهابيين كافة الأسلحة المتطورة التي ملكوها، ولم تنفع في قتالهم من قبل الجيش العربي السوري وحلفائه ومسانديه قوى العدوان الأمروصهيوني التي تساندهم فهم هزموا على الشريط المحاذي لكيان العدوان الصهيوني على الرغم من مساندته لهم، وهزموا بالقرب من غرفة عمليات موك على حدود الأردن، وهزموا بالقرب من قاعدة التنف الأميركية في البادية.
وهزموا في شرق حلب على الرغم من الدعم الأردوغاني غير المحدود لهم، وها هم اليوم يهزمون في شمال حماة وجنوب إدلب ويتم تطويق نقطة المراقبة التركية في مورك رغم استراتيجيتها بالنسبة لأردوغان. نعم على الرغم من كل هذه الانتصارات لجيشنا الباسل وحلفائه نجد الطرف المعتدي على سورية إن كان أميركا وأطلسيوها وإسرائيل، أو كان أردوغان لا يرغبون بالاعتراف بهذا النصر حتى لا يفرض عليهم شكل الحل السياسي، أو يفرض عليهم التراجع عن سياسات التدخل في الشؤون الداخلية للأمم الأخرى.
والحلف المعادي لسورية يعلم أن ليس من حق أي دولة أن تقتطع من أرض غيرها منطقة آمنة لها، وكأن الأمن المشترك لا بد أن يكون على حساب الغير.. فلا المنطقة الآمنة مشروعة في القانون الدولي، ولا إدخال الجيوش، ولا التعدي على السيادة، ولا التصرف بالوحدة الجغرافية، والديمغرافية للدول الأخرى.
وما يقوم به أردوغان تحت غطاء أستنة وسوتشي سقط بالقراءة الميدانية لجيشنا البطل وحلفائه، وها هو أردوغان محرج بدعم قواته التي أدخلها إلى نقاط المراقبة، ومحرجٌ في سحبها، كذلك في المنطقة الآمنة لم يكن له أن يحقق ما يريد حتى لو اتفق مع الأميركان على تشغيل غرفة العمليات المشتركة التي يعوّل عليها دوماً.
إن القراءة الميدانية للجيش وحلفائه هي التي تضع توافقات أستنة وسوتشي حقائق في تحرير شمال حماة كاملاً، وفي متابعة التقدم لتحرير إدلب وشرق الفرات من التدخل الاستعماري الاحتلالي وكم هُزمت أميركا على أرض العالم وما زالت، وكم سيهزم من جديد أردوغان وتندحر أحلامه الأخوانية السّلطانية.